109- وما تحولنا عن سنتنا في اختبار الرسل حين اخترناك - أيها النبي - ولا خرجت حال قومك عن أحوال الأمم السابقة فما بعثنا من قبلك ملائكة ، وإنما اخترنا رجالا من أهل الأمصار ننزل عليهم الوحي ، ونرسلهم مبشرين ومنذرين ، فيستجيب لهم المهتدون ، ويعاندهم الضالون ! فهل غفل قومك عن هذه الحقيقة ، وهل قعد بهم العجز عن السعي فأهلكناهم في الدنيا ومصيرهم إلى النار ، وآمن من آمن فنجيناهم ونصرناهم في الدنيا ، ولثواب الآخرة أفضل لمن خافوا اللَّه فلم يشركوا به ولم يعصوه ، أسلبت عقولكم - أيها المعاندون - فلا تفكروا ولا تتدبروا ؟ ! .
قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك } ، يا محمد ، { إلا رجالاً } لا ملائكة ، { نوحي إليهم } ، قرأ أبو جعفر وحفص : { نوحي } بالنون وكسر الحاء ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء .
قوله تعالى : { من أهل القرى } يعني : من أهل الأمصار دون البوادي ، لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم . وقال الحسن : لم يبعث الله نبيا من بدو ، ولا من الجن ، ولا من النساء . وقيل : إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفائهم . قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض } ، يعني : هؤلاء المشركين المكذبين { فينظروا كيف كان عاقبة } آخر أمر ، { الذين من قبلهم } ، يعني : الأمم المكذبة فيعتبروا .
قوله تعالى : { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا } ، يقول جل ذكره : هذا بأهل ولايتنا وطاعتنا ، أن ننجيهم عند نزول العذاب ، وما في الدار الآخرة خير لهم ، فترك ما ذكرنا اكتفاء ، لدلالة الكلام عليه .
قوله تعالى : { ولدار الآخرة } ، قيل : معناه ولدار الحال والآخرة . وقيل : هو إضافة الشيء إلى نفسه ، كقوله : { إن هذا لهو حق اليقين } [ الواقعة-959 ] وكقولهم : يوم الخميس ، وربيع الآخر . { أفلا تعقلون } ، فتؤمنون .
ثم بين - سبحانه - أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - ليست بدعا من بين الرسالات السماوية ، وإنما قد سبقه إلى ذلك رجال يشبهونه في الدعوة إلى الله ، فقال - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى . . . }
أى : وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - لتبليغ أوامرنا ونواهينا إلى الناس ، إلا رجالاً مثلك ، وهؤلاء الرجال اختصصناهم بوحينا ليبلغوه إلى من أرسلوا إليهم واصطفيناهم من بين أهل القرى والمدائن ، لكونهم أصفى عقولاً وأكثر حلما .
وإنما جعلنا الرسل من الرجال ولم نجعلهم من الملائكة أو من الجن أو من غيرهم ، لأن الجنس إلى جنسه أميل ، وأكثرهم تفهما وإدراكاً لما يلقى عليه من أبناء جنسه .
ثم نعى - سبحانه - على هؤلاء المشركين غفلتهم وجهالتهم فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . }
أى : أوصلت الجهالة والغفلة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتعظوا بما أصاب الجاحدين من قبلهم من عذاب دمرهم تدميراً ، وهؤلاء الجاحدين الذين دمروا ما زالت آثار بعضهم باقية وظاهرة في الأرض . وقومك - يا محمد - يمرون عليهم في الصباح وفى المساء وهم في طريقهم إلى بلاد الشام ، كقوم صالح وقوم لوط - عليهما السلام - .
فالجملة توبيخ شديد لأهل مكة على عدم اعتبارهم بسوء مصير من كان على شاكلتهم في الشرك والجحود .
وقوله { وَلَدَارُ الآخرة } وما فيها من نعيم دائم { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا } الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضيه .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أيها المشركون ما خاطبناكم به فيحملكم هذا التعقل والتدبر إلى الدخول في الإِيمان ، ونبذ الكفر والطغيان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَمَا أرْسَلْنا يا محمد مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً لا نساء ولا ملائكة ، نُوحِي إلَيْهِمْ آياتنا بالدعاء إلى طاعتنا وإفراد العبادة لنا مِنْ أهْل القُرَى يعني من أهل الأمصار ، دون أهل البوادي . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهمْ مِنْ أهْل القُرَى لأنهم كانوا أحلم وأحلم من أهل العمود .
وقوله : أفَلَمْ يَسِيروا في الأرْضِ يقول تعالى ذكره : أفل يسر هؤلاء المشركون الذين يكذبونك يا محمد ، ويجحدون نبوّتك ، ويُنكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص الطاعة والعبادة له في الأرض ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إذ كذّبوا رسلنا ، ألم نُحِلّ بهم عقوبتنا ، فنهلكَهم بها ، وننج منها رسلنا وأتباعنا ، فيتفكروا في ذلك ويعتبروا ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ قال : إنهم قالوا : ما أَنْزَلَ الله على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال : وقوله : وَما أكْثَرُ النّاس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ ، وقوله : وكأيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السّمَوَاتِ والأرْض يَمُرّونَ عَلَيْها ، وقوله : «أفأَمِنُوا أنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ ، وقوله : أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا من أهلكنا ؟ قال : فكل ذلك قال لقريش : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا في آثارهم فيعتبروا ويتفكروا .
وقوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ يقول تعالى ذكره : هذا فِعْلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا ، إن عقوبتنا إذا نزلت بأهل معاصينا والشرك بنا أنجيناهم منها ، وما في الدار الاَخرة لهم خير . وترك ذكر ما ذكرنا اكتفاء بدلالة قوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ للّذِينَ اتّقَوْا عليه ، وأضيفت الدار إلى الاَخرة ، وهي الاَخرة ، لاختلاف لفظهما ، كما قيل : إنّ هذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ وكما قيل : أتيتك عامَ الأوّلِ ، وبارحة الأولى ، وليلةَ الأولى ، ويومَ الخميس ، وكما قال الشاعر :
أتَمْدحُ فَقُعَسا وتَذُمّ عَبَسا *** ألا لِلّهِ أُمّكَ مِنْ هَجِينِ
ولوْ أقْوَتْ عَلَيْكَ دِيارُ عَبْسٍ *** عَرَفتَ الذّلّ عِرْفانَ اليَقِينِ
فتأويل الكلام : وللدار الاَخرة خير للذين اتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه .
وقوله : أفَلا تَعْقِلُونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء المشركون بالله حقيقة ما نقول لهم ونخبرهم به من سوء عاقبة الكفر ، وغبّ ما يصير إليه حال أهله مع ما قد عاينوا ورأوا وسمعوا مما حلّ بمن قبلهم من الأمم الكافرة المكذّبة رسل بها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.