المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1)

مقدمة السورة:

سورة هود : هي سورة مكية تتكون من 123 آية ، ابتدأت بالتنويه بالقرآن الكريم ، وعبادة الله وحده ، والإنذار ، والتبشير ، ثم بيان قدرة الله وربوبيته ، وأحوال الناس في تلقيهم لنعمه ونقمه ، ثم مقام القرآن ، والتحدي به ، وكفر الكافرين به غير عذر في كفرهم ، وبيان ثواب المؤمنين .

ولقد قص سبحانه بعد ذلك قصص النبيين ، ومجادلة أقوامهم لهم ، وإنزال العذاب الدنيوي بالكافرين ، ونجاة المؤمنين ، فذكر سبحانه وتعالى قصة نوح بتفصيل أكثر مما كان في سورة يونس ، ففيها بيان لعقلية الكافر وعناده ، وبيان لإنزال المقت به ، ومن بعد قصة نوح ذكر سبحانه قصة قوم عاد مع نبي الله هود ، ببيان يوضح عقلية الكفر ، وما نزل بالكافرين مع قوة بأسهم وشدتهم .

ثم ذكر بمثل ذلك من البيان قصة نبي الله صالح مع قوم ثمود ، ثم قصة نبي الله وخليله إبراهيم ، ثم قصة نبي الله لوط ، ثم قصة نبي الله شعيب .

ثم ذكر سبحانه وتعالى العبر في هذا القصص الحق ، وختمها سبحانه بدعوة المؤمنين إلى العمل وانتظار الثواب ، ثم ذكر علم الله سبحانه وتعالى الكامل ووجوب التوكل عليه .

1- الر . . . حروف ابتدأت بها السورة للإشارة إلى أن القرآن معجز ، مع أنه مكون من الحروف التي ينطقون بها ، وللتنبيه إلى الإصغاء عند تلاوة القرآن الكريم إلى أنه كتاب ذو شأن عظيم ، أُنزلت آياته محكمة لا باطل فيها ولا شبهة ، ونظمت بأسلوب لا خلل فيه ، واضحة بينة ، ثم فصلت أحكامها . وللكتاب مع شرفه في ذاته شرف أنه من عند الله الذي يعلم كل شيء ، ويضع الأمور في مواضعها سبحانه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة هود

[ وهي مكية ]{[1]} .

قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عِكْرِمة قال : قال أبو بكر : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شَيّبك ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت " {[2]} .

وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبت ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت " {[3]} وفي رواية : " هود وأخواتها " .

وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا حماد{[4]} بن الحسن ، حدثنا سعيد بن سلام ، حدثنا عمر بن محمد ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شيبتني هود وأخواتها : الواقعة ، والحاقة ، وإذا الشمس كورت " وفي رواية : " هود وأخواتها " {[5]} .

وقد روي من حديث ابن مسعود ، فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن طارق الرائشي{[6]} ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ؛ أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، ما شيبك ؟ قال : " هود ، والواقعة " {[7]} .

عمرو بن ثابت متروك ، وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود . والله أعلم .

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وبالله التوفيق .

وأما قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي : هي محكمة في لفظها ، مفصلة في معناها ، فهو كامل صورة ومعنى . هذا معنى ما روي عن مجاهد ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .

وقوله : { مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي : من عند الله الحكيم في أقواله ، وأحكامه ، الخبير بعواقب الأمور .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1)

مقدمة السورة:

سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود ، ولا يعرف لها اسم غير ذلك ، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : يا رسول الله قد شبت ، قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت . رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة . وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض .

وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله { ألا بعدا لعاد قوم هود } ، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب{ ألر } .

وهي مكية كلها عند الجمهور . وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير ، وقتادة إلا آية واحدة وهي { وأقم الصلاة طرفي النهار إلى قوله للذاكرين } . وقال ابن عطية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة . وهي قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } ، وقوله { أفمن كان على بينة من ربه } إلى قوله { أولئك يؤمنون به } قيل نزلت في عبد الله بن سلام ، وقوله { وأقم الصلاة طرفي النهار } الآية . قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي ، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي ، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية .

نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف . وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور . ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة ، وسيأتي بيان هذا .

وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير . وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين ، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون .

وأغراضها : ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة .

وباتلائها بالتنويه بالقرآن .

وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى .

وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى .

وإثبات الحشر .

والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس .

وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض .

وخلق العوالم بعد أن لم تكن .

وأن مرجع الناس إليه ، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء .

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } .

وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة .

وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين .

وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود ، وإبراهيم ، وقوم لوط ، ومدين ، ورسالة موسى ، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونهم .

وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم .

وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك .

وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه .

ثم عرض باستئناس النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين ، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح .

وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة .

{ ألمر }

تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد .

{ كتاب أحكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }

القول في الافتتاح بقوله : { كتاب } وتنكيره مماثل لما في قوله : { كتاب أنزل إليك } في سورة [ الأعراف : 2 ] .

والمعنى : أن القرآن كتاب من عند الله فلماذا يَعجب المشركون من ذلك ويكذبون به . ف ( كتاب ) مبتدأ ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية .

ومن لدن حكيم خبير } خبَر و { أحكمت آياته } صفة ل ( كتاب ) ، ولك أن تجعل { أحكمت آياته } صفة مخصصة ، وهي مسوغ الابتداء . ولك أن تجعل ( أحكمت ) هو الخبر . وتجعل { من لدن حكيم خبير } ظرفاً لغواً متعلقاً ب { أحكمت } و { فُصلت } .

والإحكام : إتقان الصنع ، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف . وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها ، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ . وتقدم عند قوله تعالى : { منه آيات محكمات } في أول سورة [ آل عمران : 7 ] . وبهذا المعنى تنبىء المقابلة بقوله : { من لدن حكيم } .

وآيات القرآن : الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل . وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } في أوائل سورة [ البقرة : 39 ] ، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .

والتفصيل : التوضيح والبيان . وهو مشتق من الفَصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه ، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة [ الأنعام : 55 ] .

ونظيره : الفرق ، كنى به عن البيان فسمي القرآن فُرقاناً . وعن الفصل فسمي يوم بَدر يوم الفرقان ، ومنه في ذكر ليلة القدر { فيها يُفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] .

و ( ثُم ) للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح .

و { من لدن حكيم خبير } أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته ، وإيضاح التبيين لقوة علمه . والخبير : العالم بخفايا الأشياء ، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز ، فالحكيم مقابل ل { أحْكمتْ } ، والخبير مقابل ل { فُصّلتْ } . وهما وإن كانا متعلّق العلم ومتعلّق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم ، إلا أنه روعي في المقابلة الفعلُ الذي هو أثرُ إحدى الصفتين أشدُّ تبادُراً فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة .