بإبلاغه { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي : ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي : هذا هو الذي قلت لهم ، { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أي : كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم ، { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شُعْبَة قال : انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان فأملاه علي سفيان وأنا معه ، فلما قام انتسخت من سفيان ، فحدثنا قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فقال : " يا أيها الناس ، إنكم محشورون إلى الله ، عز وجل ، حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده ، وإن أول الخلائق يُكْسى إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " .
ورواه البخاري عند هذه الآية عن الوليد ، عن أبي شعبة - وعن محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان ، به . {[10535]}
{ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه . { أن اعبدوا الله ربي وربكم } عطف بيان للضمير في به ، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا راجع ، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني ، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن { اعبدوا الله } . { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي رقيبا عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان . { فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء لقوله : { إني متوفيك ورافعك } والتوفي أخذ الشيء وافيا ، والموت نوع منه قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } . { كنت أنت الرقيب عليهم } المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات . { وأنت على كل شيء شهيد } مطلع عليه مراقب له .
وبعد أن تبرّأ من أن يكون أمرَ أمّته بما اختلقوه انتقل فبيّن أنّه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال { ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به } ، فقوله : { ما قلت لهم } ارتقاء في الجواب ، فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو { ما يكون لي أن أقول } الخ . . . صرّح هنا بما قاله لأنّ الاستفهام عن مقاله . والمعنى : ما تجاوزتُ فيما قلتُ حدّ التبليغ لما أمرتني به ، فالموصول وصلته هومقول { ما قلت لهم } وهو مفرد دالّ على جُمل ، فلذلك صحّ وقوعه منصوباً بفعل القول .
و { أنْ } مفسّرة { أمرتني } لأنّ الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة { اعبدوا الله ربّي وربّكم } تفسيرية لِ { أمرتني } . واختير { أمرتني } على ( قلت لي ) مبالغة في الأدب . ولمّا كان { أمرتني } متضمّناً معنى القول كانت جملة { اعبدوا الله ربّي وربّكم } هي المأمورُ بأن يبلّغه لهم فالله قال له : قل لهم اعبدوا الله ربّي وربّكم . فعلى هذا يكون { ربّي وربّكم } من مقول الله تعالى لأنّه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبّر عن ذلك بفعل { أمرتني به } صح تفسيره بحرف { أن } التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله . فلا حاجة إلى ما تكلّف به في « الكشاف » على أنّ صاحب « الانتصاف » جوّز وجهاً آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى ، فيكون الله تعالى قال له : قل لهم أن يعبدوا ربّك وربّهم . فلمّا حكاه عيسى قال : اعبدوا الله ربّي وربّكم اهـ . وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالاً لحكاية القول بالمعنى .
وأقول : هو استعمال فصيح قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : { مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم } في سورة الأنعام ( 6 ) إذَا أخبرت أنّك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له : فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة اهـ . وعندي أنّه ضعيف في هذه الآية .
ثمّ تبرّأ من تبعتهم فقال { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } أي كنت مشاهداً لهم ورقيباً يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء .
و { ما دمت } ( ما ) فيه ظرفية مصدرية ، و ( دام ) تامّة لا تطلب منصوباً ، و { فيهم } متعلّق بِ { دمتُ } ، أي بينهم ، وليس خبراً لِ ( دام ) على الأظهر ، لأنّ ( دام ) التي تطلب خبراً هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معيّن هو مضمون خبرها ، أمّا هي هنا فهي بمعنى البقاء ، أي ما بقيت فيهم ، أي ما بقيت في الدنيا .
ولذلك فرّع عنه قوله : { فلمّا توفّيتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم } ، أي فلمّا قضيت بوفاتي ، لأنّ مباشر الوفاة هو ملك الموت . والوفاة الموت ، وتوفّاه الله أماته ، أي قضى به وتوفّاه ملك الموت قبض روحه وأماته .
وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى { إنّي متوفّيك } في سورة آل عمران ( 55 ) . والمعنى : أنّك لمّا توفّيتني قد صارت الوفاة حائلاً بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم ، ولذلك قال { كنتَ أنتَ الرقيب عليهم } ، فجاء بتضير الفصل الدّال على القصر ، أي كنت أنتَ الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتّصال . والمعنى أنّك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت . وقد أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وهداهم بكلّ وجوه الاهتداء . وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة .
وقوله : { وأنت على كلّ شيء شهيد } تذييل ، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفاً على ما تقدّم لئلاّ يكون في حكم جواب { لمّا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما قلت لهم} وأنت تعلم، {إلا ما أمرتني به} في الدنيا، {أن اعبدوا الله}، يعني وحدوا الله، {ربي وربكم}... {وكنت عليهم شهيدا}، يعني على بني إسرائيل بأن قد بلغتهم الرسالة، {ما دمت فيهم}، يقول ما كنت بين أظهرهم، {فلما توفيتني}، يقول: فلما بلغ بي أجل الموت، فمت {كنت أنت الرقيب عليهم}، يعني الحفيظ، {وأنت على كل شيء شهيد}، يعني شاهدا بما أمرتهم من التوحيد، وشهيد عليهم بما قالوا من البهتان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم "اعْبُدُوا الله رَبّي ورَبّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا": وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم. "فَلمّا توفّيْتَني ": فلما قبضتني إليك،
"كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيهِمْ": كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم.
وفي هذا تبيان أن الله تعالى إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله: "أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ... "وأنْتَ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ "يقول: وأنت تشهد على كل شيء، لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيت وشهدت.
عن السديّ: أما الرقيب: فهو الحفيظ.
وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربه من الله تعالى توقيفا منه له فيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{مَا قُلتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به، ويحتمل وجهين: أحدهما: تكذيباً لمن اتخذه إلهاً معبوداً. والثاني: الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه.
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: إعلامهم أن الله ربه وربهم واحد. والثاني: أن عليه وعليهم أن يعبدوا رباً واحداً حتى لا يخالفوا فيما عبدوه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
.." فلما توفيتني "أي قبضتني إليك وأمتني، "كنت أنت الرقيب عليهم"، والرقيب هو الذي يشاهد القوم ويرقب ما يعملون ويعرف ذلك، ثم اعترف بأنه تعالى "على كل شيء شهيد"، لأنه عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء، فهو يشهد على العباد بكل ما يعملونه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر عما صنع في الدنيا وقال في تبليغه، وهو أنه لم يتعد أمر الله في أن أمرهم بعبادته وأقر بربوبيته... ثم أخبر عليه السلام أنه كان شهيداً ما دام فيهم في الدنيا. {فلما توفيتني}: قبضتني إليك بالرفع والتصيير في السماء 3. والرقيب: الحافظ المراعي.
..واعلم أنه كان الأصل أن يقال: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر، نزولا على موجب الأدب الحسن، لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا، ودل على الأصل بذكر أن المفسرة... {فلما توفيتني} والمراد منه، وفاة الرفع إلى السماء، من قوله {إني متوفيك ورافعك إلى}...
{وأنت على كل شيء شهيد} يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم، فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية، ويجوز حمله على العلم، ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
..لما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين: إشارة وعبارة، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال، وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها، يعبد الله تعالى بذلك: {ما قلت لهم} أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء {إلا ما أمرتني به} ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله: {أن اعبدوا} أي ما أمرتهم إلا بعبادة {الله} أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال: {ربي وربكم} أي أنا وأنتم في عبوديته سواء، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة، وهو من بدائع الأمثلة. ولما فهم صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال: {وكنت عليهم} أي خاصة لا على غيرهم. ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال معبراً بصيغة المبالغة: {شهيداً} أي بالغ الشهادة، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته {ما دمت فيهم} وأشار إلى الثناء على الله بقوله: {فلما توفيتني} أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي {كنت أنت} أي وحدك {الرقيب} أي الحفيظ القدير {عليهم} لا يغيب عليك شيء من أحوالهم، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات {وأنت على كل شيء} أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد {شهيد} أي مطلع غاية الاطلاع، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم إنه بعد تنزيه ربه، وتبرئة نفسه، وإقامة البرهانين على براءته، بين حقيقة ما قاله لقومه، لأن الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة، بحيث تظهر لهم هنالك حجة الله البالغة، إلا بإثبات ما كان يجب أن يكونوا عليه من أمر الدين والتوحيد بعد نفي ضده، فكان من شأن السامع لما سبق من النفي أن يسأل عما قاله في موضوعه، ولذلك قال: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} فهذا قول يتضمن إنكار أن يكون أمرهم باتخاذه وأمه إلهين وإثبات ضده، أي ما قلت لهم في شأن الإيمان وأصل الدين وأساسه الذي يبنى عليه غيره ولا يعتد بغيره دونه، إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادا وتبليغا وهو الأمر بعبادتك وحدك، مع التصريح بأنك ربي وربهم، وأنني عبد من عبادك مثلهم، أي إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم. فقوله: «أن اعبدوا الله» تفسير للمأمور به، وإنما قال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، ولم يقل ما أمرتهم إلا بما أمرتني به، أدبا مع الله تعالى ومراعاة لما ورد في السؤال «أأنت قلت».
{وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون فأقر الحق وأنكر الباطل مدة دوام وجودي بينهم {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} أي فلما توفيتني إليك كنت أنت المراقب لهم وحدك إذ انتهت مدة رسالتي فيهم ومراقبتي لهم وشهادتي عليهم، فلا أشهد على ما وقع منهم وأنا لست فيهم، وأنت شهيد عليهم وشهيد بيني وبينهم، بما أنك شهيد على كل شيء في ملكك، وأنت أكبر شهادة ممن تجعلهم شهداء من خلقك، {قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم} [الأنعام: 19].
وقد مر في هذه السورة ما يزكي تبرئة عيسى عليه السلام لنفسه ويؤيد قوله هنا، وذلك قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم – وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 75] فجملة «وقال المسيح يا بني إسرائيل» الخ حالية أي قالوا قولهم ذلك والحال أن المسيح أمرهم بضده، وهو أن يعبدوا الله وحده.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...وقد قلت لهم {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ}...وقد يخطر بالبال سؤال، هل هذه الكلمة هي كل رسالة عيسى؟ وكيف يُمكن أن لا تكون هناك كلمة أخرى في الوقت الَّذي كان الإنجيل يُمثِّل حجماً كبيراً في مختلف جوانب الحياة من النصائح والمواعظ والتعاليم؟ والجواب عن ذلك: إنَّ هذه الكلمة تختصر كل تطلعات الرسالة وامتداداتها، لأنَّ العبادة لله تتمثَّل في تحرير النفس من الخضوع لكل شيء غير الله، سواء كان شخصاً، أو جهةً، أو صنماً، وأن تخضع لله في كل شأن من شؤون حياتك، فتطيعه في ما أمر به فتفعله، وفي ما نهى عنه فتتركه، وفي ما رسمه من وسائل وأهداف فتلتزم بها، وفي ما أوحى به من عقائد ومفاهيم فتعتقد بها.. وهكذا تتّسع العبادة لكل قضايا الحياة وأوضاعها، وسبلها، ووسائلها، وغاياتها، فيُمثِّل قيامك بكل مسؤولياتك الفرديّة والاجتماعيّة، المعنى الأعمق للعبادة، وتكون الصَّلاة والصوم والحج ونحوها مظهراً من مظاهرها، لا كلَّ شيء فيها، وبذلك تكون كل آفاق الرسالة وتحركاتها لوناً من ألوان العبادة الّتي تُحوِّل الحياة كلّها إلى مسجد، يتمثَّل فيها السجود لله في أكثر من شكل.