المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

189- ويسألك قوم عن الهلال{[14]} يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يكتمل ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس . فما وراء هذا التغير ، حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة ؟ . فقل لهم : إن لتكرار هذه الأهلة واختلاف نموها حِكَماً ومصالح دينية ودنيوية ، فهي أمارات تحدد أوقات المعاملات في معاشكم ، وتعيِّن أوقات الحج الذي هو من أركان دينكم ، ولو استقر الهلال على حاله كالشمس ما استقام لكم توقيت معاشكم وحجكم ، وليس جهلكم بحكمة اختلاف الهلال مدعاة للشك في حكمة الخالق ، وليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ، متميزين بذلك عن الناس ، ولكن البر هو تقوى القلوب وإخلاصها وأن تأتوا البيوت من أبوابها كما يأتي كل الناس ، وأن تطلبوا الحق والدليل المستقيم ، فاطلبوا رضا الله ، واتقوا عذابه ، وارجوا بذلك فَلاَحَكُمْ وفوزكم ونجاتكم من عذاب النار .


[14]:إن القمر يعكس ضوء الشمس نحو الأرض من أجزاء سطحه المرئية والمضيئة فتظهر الأهلة، فإذا كان القمر في (الاقتران) أي بين الشمس والأرض فهو في المحاق ويبدأ ميلاد الهلال الجديد لجميع سكان الأرض، وإذا كان في الاستقبال أي الجهة المقابلة للشمس بالنسبة للأرض يظهر بدرا ثم يأخذ في التناقص حتى الاقتران الثاني، وتتم الدورة الاقترانية أي الشهر العربي في مدى 5309 ر29 يوما وعلى ذلك فإنه يمكن تعيين التاريخ العربي من ساعة الهلال وشدة إضاءته، فإذا شوهد الهلال خطا رفيعا عند الأفق الغربي وغرب بعد الغروب ببضع دقائق تمكن الرؤية بعد هذا الغروب، وتثبت بداية الشهر ويتيسر تعيين التاريخ من هذا الشهر للناس. ودورة القمر هي التي علمت الناس حساب الشهور ومنها شهر الحج وبدايته.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [ وَالْحَجِّ ]{[3373]} } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم ، وعدّة نسائهم ، ووقتَ حَجِّهم .

وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنَّهم قالوا : يا رسول الله ، لم خُلِقَتْ الأهلة ؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومَحَلّ دَيْنهم .

وكذا رُوي عن عَطَاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .

وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا " .

ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به{[3374]} . وقال : كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلَّة ، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " {[3375]} . وكذا روي من حديث أبي هريرة ، ومن كلام عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه{[3376]} {[3377]} .

وقوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال البخاري : حدثنا عبيد الله{[3378]} بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره ، فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }{[3379]} .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر{[3380]} وإنه خرج معك من الباب . فقال له : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ . فقال : " إني [ رجل ]{[3381]} أحمس " . قال له : فإن ديني دينك . فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي حاتم . ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه . وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس .

وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال{[3382]} الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ]{[3383]} } الآية .

وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ، فيجزيكم{[3384]} بأعمالكم على التمام ، والكمال .


[3373]:زيادة من أ.
[3374]:المستدرك (1/423).
[3375]:رواه أحمد في المسند (4/23) من طريق محمد بن جابر به.
[3376]:في جـ: "عنهم".
[3377]:حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم (1909) ومسلم في صحيحه برقم (1081).
[3378]:في أ: "عبد الله".
[3379]:صحيح البخاري برقم (4512).
[3380]:في جـ: "فاجر".
[3381]:زيادة من جـ، أ.
[3382]:في أ: "فأنزل".
[3383]:زيادة من جـ.
[3384]:في جـ، أ: "فيجازيكم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يسألونك عن الأهلة } سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : ( ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ) { قل هي مواقيت للناس والحج } فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها . وخصوصا الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء . والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها . والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر . { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء ، والباقون بالكسر . { ولكن البر من اتقى } وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف { ولكن } ورفع { البر } . كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، وإنما يدخلوا من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك برا ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين . أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه . والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله . { وأتوا البيوت من أبوابها } إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها . { واتقوا الله } في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله . { لعلكم تفلحون } لكي تظفروا بالهدى والبر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( 189 )

وقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ؟ ، وجمع { الأهلّة } وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر ، فإنما جمع أحواله( {[1763]} ) من الهلالية( {[1764]} ) ، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر( {[1765]} ) ، وقيل ثلاث .

وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق( {[1766]} ) ، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع .

وقوله : { مواقيت } معناه لمحل( {[1767]} ) الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد( {[1768]} ) ، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره ، و { مواقيت } لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع ، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحِج » بكسر الحاء في جميع القرآن ، وفي قوله «حج البيت » في آل عمران .

قال سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى ، وقيل : الفتح مصدر والكسر الاسم .

وقوله تعالى : { وليس البر } الآية( {[1769]} ) ، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات ، وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب ، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته ، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك ، فنزلت الآية فيه( {[1770]} ) .

وقال إبراهيم : «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز » .

وقال السدي : ناس من العرب ، وهم الذين يسمون الحمس ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل( {[1771]} ) وقال إني أحمس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس ، ونزلت الآية .

وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت ؟ ، قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحمس ، أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية .

قال أبو عبيدة( {[1772]} ) : الآية ضرب مثل ، المعنى : ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء ، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه .

وقال غير أبي عبيدة : «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب »( {[1773]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل والأول أسدُّ( {[1774]} ) ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء( {[1775]} ) فبعيد مغير نمط الكلام ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البِيوت » بكسر الباء ، وقرأ بعض القراء «ولكنَّ البرَّ » بتشديد نون «لكنَّ » ونصب «البرَّ » ، وقد تقدم القول على { من } في قوله { من آمن بالله } [ البقرة : 177 ] { واتقوا } معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، و { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، والفلاح درك البغية .


[1763]:- يعني أن جمعه باعتبار أحواله واختلاف زمانه تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات.
[1764]:- أي من صفاته الهلالية في كل شهر، أو في كل ليلة.
[1765]:- اختلف في تسميته هلالا بعد ليلتين، فقيل: يسمى هلالا ثلاث ليال، وبعدها يسمى قمراً وقيل يسمى هلالا إلى سبع ليال ثم يكون قمراً.
[1766]:- تفسير لما قبله.
[1767]:- المحِلّ (بكسر الحاء) أجل الدين.
[1768]:- أشار بهذا إلى قوله تعالى: (للناس) على حذف مضاف، أي: لمصالحهم ومقاصدهم، فالحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف تشكلاتها ما يتعلق بها من مصالح الدنيا والدين – وفي الآية دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد، بل بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت، ولذلك اختلف حالها عن حال الشمس. تنبيه: السؤال كان عن السبب في التشكلات والتغيّرات النورية حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ولا يكون على حال واحدة؟ ولما كان ذلك مبنيا على أمور عقلية خفية تدرك من علم الفلك والهيئة. والشريعة إنما جاءت لتعلم الناس ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم لا لتعلم علوم الفلك والطبيعة أجابهم إلى ما هو خير من طلبهم، ونبههم إلى أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم، ولو كان ما طلبوه مما يقصد شرعا لأجابهم إليه، وهذا الجواب يسمى عند علماء البيان بالأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب، والمخاطب بغير ما يترقب رعاية لمصلحته، وتحقيقا لما يتوقف عليه في حياته. ونص القزويني في تلخيص المفتاح في هذا الموضوع: «ومن خلاف المقتضى تلقي (المخاطب) بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد كقول القبعثري للحجاج – وقد قال له متوعدا – لأحملنك على الأدهم: (مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب). أي من كان مثل الأمير في السلطان وبسطة اليد، فجدير بأن يصفُد لا أن يُصْفَد – أو السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً على أنه الأولى بحاله أو المهم له. كقوله تعالى: [يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج]. قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله بعد ذكر سبب الآية ما نصه: والأليق بحالهم أن يسألوا عن ذلك، أي عن الغرض والحكمة، لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على دقائق علم الهيئة، ولا يتعلق لهم به غرض» ا. هـ. وهذه كلمة نابية في حق الصحابة رضوان الله عليهم، كيف وهم قادرون على إدراك ذلك وأكثر منه لفرط ذكائهم وسلامة فطرتهم وصفاء سريرتهم – فقد قال الإمام القرافي رحمه الله في كتاب الفروق: «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحاراً في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسيات والعلوم الباطنة والظاهرة، حتى يروى أن عليا رضي الله عنه جلس عند ابن عباس في الباء من (بسم الله) من العشاء إلى أن طلع الفجر، مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرؤوا كتاباً، ولا تفرغوا من الجهاد وقتال الأعداء، ومع ذلك كانوا على هذه الحالة حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته» ا. هـ. وقال أيضا: من نوادر المسائل الفقهية التي يدخل فيها الحساب المسألة المحكية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن رجلين كان لأحدهما خمسة أرغفة وللآخر ثلاثة أرغفة، فجلسا يأكلان فأكل معهما ثالث ثم بعد الفراغ من الأكل دفع لهما ثمانية دراهم وقال: اقسما هذه الدراهم – على قدر ما أكلته – لكما. فقال صاحب الثلاثة: إنه أكل نصف أكله من أرغفتي ونصف أكله من أرغفتك فأعطني النصف من الدراهم، فقال له الآخر: لا أعطيك إلا ثلاثة دراهم لأن لي خمسة أرغفة، ولك ثلاثة أرغفة فآخذ خمسة دراهم، وتأخذ ثلاثة دراهم، فحلف صاحب الثلاثة لا يأخذ إلا ما حكم به الشرع فترافعا إلى علي رضي الله عنه فحكم لصاحب الثلاثة بدرهم واحد، ولصاحب الخمسة بسبعة دراهم فشكا من ذلك صاحب الثلاثة، فقال له علي رضي الله عنه: الأرغفة ثمانية، وأنتم ثلاثة، أكل كل واحد منكم ثلاثة أرغفة إلا ثلثا بقي لك ثلث من أرغفتك أكله صاحب الدراهم، وأكل صاحبك من أرغفته ثلاثة إلا ثلثا وهي خمسة يبقى له رغيفان وثلث، وذلك سبعة أثلاث أكلها صاحب الدراهم فأكل لك ثلثا، وأكل له سبعة أثلاث، فلك درهم وله سبعة دراهم. فهذه مسألة من دقيق الحساب أدركها رضي الله عنه بمجرد الالتفات إليها، وكم له رضي الله عنه من جواب خاص في مسائل من الفرائض والمساحات كمسألة حفر البئر المشهورة. ومن هنا كان من الواجب طلب العلوم والاطلاع عليها، فإن كثيرا من مسائل الحياة لا تعلم إلا بالعمليات الحسابية والهندسية الدقيقة. والله أعلم.
[1769]:- لما ذكر الله سبحانه وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة بقوله: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج] استطرد منه إلى ذكر ما كانوا يفعلونه في الحج بقوله: [وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها]، وهذا الاستطراد موجود في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: [يا أيها النبي اتّق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما، واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا] أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه دون غيره، ثم اتبع ذلك بقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، ويعني أن الإنسان ليس له إلا قلب واحد، وأن القلب ليس له إلا وجهة واحدة، فإن لم يتجه إلى تقوى ربه، واتباع وحيه، والتوكل عليه، ولم يفرد ربه بذلك، انصرف عنه إلى غيره، ثم استطرد من ذلك أن الله لم يجعل زوج الرجل أمه، ولم يجعل دعيَّه ابنه، وهذا من الوحي الذي يجب اتباعه ظاهرا والإيمان به باطنا، فانظر ما أحلى هذا الاستطراد وما أحسنه.
[1770]:- روى البخاري، وغيره، عن أبي اسحق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: [وليس البر] الآية، وجاء في بعض الروايات تعيين الرجل وأنه قطبة بن عامر الأنصاري.
[1771]:- أي لم يدخل الباب لأنه من الحمس، وهذا على ما قاله السدي. وهناك قول آخر وهو أنهم لا يدينون بهذا الدين، وهو ترك الدخول من باب البيت كما يأتي عند ابن عطية في قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: (إني أحمس)، أي من قوم لا يدينون بذلك. ففي الحمس قولان – قيل: إنهم يفعلون ذلك، وقيل إنهم لا يدينون بذلك. وإنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم، والحماسة الشدة، والحمس جمع أحمس وحمساء.
[1772]:- الآية حملت على معنى حقيقي ومعنى مجازي في إتيان البيوت من أبوابها، والمعنى الحقيقي هو ما شرح به ابن عطية أولا، ونقله عن البراء بن عازب، وقتادة، والزهري، والسدي، والربيع بن أنس، وقد أشار بقوله: «وقال أبو عبيدة» إلى حمل الآية على المعنى المجازي.
[1773]:- يعني أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح. وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الاستدلال بالعلوم على المظنون هو الطريق المستقيم، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة وذلك هو الطريق الصحيح، أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق فقد أتيتم البيت من ظهره لا من بابه، وهذا غير ما يجب، فإن الواجب هو أن تستدلوا بالمعلوم على المجهول، لا بالمجهول على المعلوم. قال معناه (ح).
[1774]:- هو ما قاله أبو عبيدة: اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه من الجهلة المشركين فمن أتى البيت من بابه فقد أصاب، ومن أتاه من خلفه فقد أخطأ.
[1775]:- أي لا تأتوا النساء في أدبارهن بل في قبلهن.