6- النبي - محمد - أحق ولاية بالمؤمنين ، وأرحم بهم من نفوسهم ، فعليهم أن يحبوه ويطيعوه ، وأزواجه أمهاتهم في التوقير وحرمة التزوج بهن بعده ، وذوو القرابات أولى من المؤمنين والمهاجرين بأن يتوارثوا فيما بينهم فرضا في القرآن . لكن يجوز أن تقدموا إلى مَنْ وَاليتم في الدين من غير الأقارب معروفاً ، فتعطوه - براً وعطفاً عليه - أو توصوا له بجزء من مالكم . كان ذلك التوارث بالأرحام في الكتاب مقررا لا يعتريه تبديل .
ولهذا قال تعالى في هذه الآية : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } .
وقال البخاري عندها : {[23214]} حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا [ محمد بن ] {[23215]} فُلَيح ، حدثنا أبي ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عَصَبَتُه مَن كانوا . فإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا ، فليأتني فأنا مولاه » . تفرد به البخاري{[23216]} .
ورواه أيضا في " الاستقراض " وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طرق ، عن فليح ، به مثله{[23217]} . ورواه الإمام أحمد ، من حديث أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه{[23218]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري في قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا ، فإلي . ومَنْ ترك مالا فلورثته " {[23219]} . ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل{[23220]} ، به نحوه .
وقوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام والتوقير والإعظام ، ولكن لاتجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم . وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء . ونص الشافعي على أنه يقال ذلك . وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ، فيدخل النساء{[23221]} في جمع المذكر السالم تغليبا ؟ فيه قولان : صح عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لا يقال ذلك . وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي ، رحمه الله . {[23222]}
وقد روي عن أُبي بن كعب ، وابن عباس أنهما قرآ : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " ، وروي نحو هذا عن معاوية ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والحسن : وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي . حكاه البغوي وغيره ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا ابن المبارك ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعَلِّمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستطب بيمينه " ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ، وينهى عن الروث والرمة .
وأخرجه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن عجلان{[23223]} .
والوجه الثاني : أنه لا يقال ذلك ، واحتجوا بقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } : وقوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : في حكم الله { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار . وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته{[23224]} وذوي رحمه ، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام ، رضي الله عنه ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي - من ساكني بغداد - عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله ، عز وجل ، فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } ، وذلك أنا معشر قريش لما قَدمنا المدينة ، {[23225]} قَدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ ، فواخيناهم ووارثناهم . فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخى عمر فلانا ، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا من بني زُرَيق ، سعد الزرقي ، ويقول بعض الناس غيره . قال الزبير : وواخيت أنا كعب بن مالك ، فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، فوالله يا بني ، لو مات يومئذ عن الدنيا ، ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .
وقوله : { إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ذهب الميراث ، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية .
وقوله : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : هذا الحكم ، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول ، الذي لا يبدل ، ولا يغير . قاله مجاهد وغير واحد . وإن كان قد يقال{[23226]} : قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي{[23227]} ، وقضائه القدري الشرعي .
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها . روي أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت . وقرئ " وهو أب لهم " أي في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون أخوة { وأزواجه أمهاتهم } منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء { وأولوا الأرحام } وذوو القرابات . { بعضهم أولى ببعض } في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام في التوارث بالهجرة والموالاة في الدين . { في كتاب الله } في اللوح أو فيما أنزل ، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله . { من المؤمنين والمهاجرين } بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لأولي أي أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة . { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع { وكان ذلك في الكتاب مسطورا } كان ما ذكر في الآيتين ثابتا في اللوح أو القرآن . وقيل في التوراة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين} في الطاعة له {من أنفسهم} من بعضهم لبعض...
{وأزواجه أمهاتهم} ولا يحل لمسلم أن يتزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا.
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} يعني في المواريث {من المؤمنين} يعني الأنصار.
{والمهاجرين} الذين هاجروا إليهم بالمدينة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"النبيّ" محمد "أولى بالمؤمنين"، يقول: أحقّ بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم... حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا فليح، عن هلال بن عليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وأنا أوْلَى النّاسِ بِهِ فِي الدّنْيا والآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: "النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ "وأيّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَعَصَبَتِهِ مَنْ كانُوا، وَإنْ تَرَكَ دَيْنا أوْ ضياعا فَلْيأْتِني وأنا مَوْلاهُ»...
وقوله: "وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ" يقول: وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم، في أنهن يحرم عليهن نكاحهن من بعد وفاته، كما يحرمُ عليهم نكاح أمهاتهم. عن قتادة"...وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ" يعظّم بذلك حقهنّ...
وقوله: "وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهاجِرِينَ" يقول تعالى ذكره: وأولو الأرحام الذين وَرّثْتُ بعضهم من بعض، هم أولى بميراث بعض من المؤمنين والمهاجرين أن يرث بعضهم بعضا، بالهجرة والإيمان دون الرحم...
عن قتادة:... لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابيّ المسلم لا يرث من المهاجرين شيئا، فأنزل الله هذه الآية، فخلط المؤمنين بعضهم ببعض، فصارت المواريث بالملل...
فمعنى الكلام على هذا التأويل: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بالهِجرة، وقد يحتمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، أوْلى بالميراث، ممن لم يؤمن، ولم يهاجر.
وقوله: "إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: إلاّ أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة... وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلاّ أن تمسكوا بالمعروف بينكم بحقّ الإيمان والهجرة والحلف، فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن توصوا إلى أوليائكم من المهاجرين وصية...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: معنى ذلك: إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار، معروفا من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم، وما أشبه ذلك، لأن كلّ ذلك من المعروف الذي قد حثّ الله عليه عباده.
وإنما اخترت هذا القول، وقلت: هو أولى بالصواب من قيل من قال: عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك، لأن القريب من المشرك، وإن كان ذا نسب فليس بالمولى، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك، وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا منهم وليا بقوله: "لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ" وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء، ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولياء... ومعنى الكلام: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين ليسوا بأولِي أرحام منكم معروفا.
وقوله: "كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورا" يقول: كان أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض "في كتاب الله": أي في اللوح المحفوظ "مسطورا" أي مكتوبا...
وقال آخرون: معنى ذلك: كان ذلك في الكتاب مسطورا: لا يرث المشرك المؤمن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين}، يحتمل:... هو أولى أن يعظم، ويحترم، ويطاع من غيره، أو أن يكون أولى في الرحمة والشفقة لهم أي أرحم بهم، وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة حين قال: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وليس من الناس من يعز عليه ما يفعله من الإثم.
أو أن يجوز {أولى بالمؤمنين} أي أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم محبة الاختيار والإيثار، ليس محبة الميل من القلب، لأن ميل القلب يكون بالطبع، وذكر في الخبر: (ليس يؤمن أحدكم حتى أكون أنا أحب إليه من نفسه وولده وأهله) [البخاري 15] أو كلام نحو هذا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال ابن عبّاس وعطا: يعني إذا دعاهم النبيّ (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم...
وقال أبو بكر الورّاق: لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى.
وقال بسام بن عبدالله العراقي: لأنَّ أنفسهم تحترس من نار الدُّنيا، والنبيّ يحرسهم من نار العُقبى.
وقيل: إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: لاِنَّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة من هذا: تقديم سُنته على هواك، والوقوفُ عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار من تتوسل سبباً ونسباً على أعِزَّتِكَ ومَن والاكَ.
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}: ليكن الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك بالأقارب، وصلةُ الرحِم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار، ولكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين} في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وقال مجاهد: كل نبيّ فهو أبو أمّته. ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين...
{مِنَ المؤمنين والمهاجرين} يجوز أن يكون بياناً لأولى الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية. أي: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين...} أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذكر الله تعالى أنه {أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت.
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا} إشارة إلى الميراث، وقوله: {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا} إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نهى سبحانه عن التبني، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وأمه، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك: {النبي} أي الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل الملوك بل أعظم بهذا السبب الرباني، فأيّ حاجة له إلى السبب الجسماني.
{وأزواجه} أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته {أمهاتهم} أي المؤمنين من الرجال خاصة دون النساء، لأنه لا محذور من جهة النساء، وذلك في الحرمة والإكرام، والتعظيم والاحترام، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الأحكام، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص، لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق الوالد على ولده، وهو حي في قبره و هذا أمر جعله الله وهو الذي إذا جعل شيئاً كان، لأن الأمر أمره والخلق خلقه، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم، ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً: {كان ذلك} أي الحكم العظيم {في الكتاب} أي القرآن في آخر سورة الأنفال {مسطوراً} بعبارة تعمه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
خلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني، ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم.. وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي [صلى الله عليه وسلم] وتقديمها على جميع ولايات النسب؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [صلى الله عليه وسلم] وجميع المؤمنين.
وولاية النبي [صلى الله عليه وسلم] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول -عليه صلوات الله وسلامه- ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [صلى الله عليه وسلم] أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وفي الصحيح أيضا أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال [صلى الله عليه وسلم]: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال [صلى الله عليه وسلم]:"الآن يا عمر".
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويكفي أن عمر -وهو من هو- قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [صلى الله عليه وسلم] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي.
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم. جاء في الصحيح.. والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأنفس: الذوات، أي: هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران: 164]، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس. والمعنى: أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي: من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85]، أي: يقتل بعضكم بعضاً، وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء: 29]، والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب.
والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي: أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين؟ فقالوا: ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين، ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبر من أمهات المؤمنين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
والظاهر من سياق الآية أنها لا تتحدث عن جانب التعاطف الذي يكلِّف المسلمين بتقديم أنفسهم فداءً عن نفسه إذا دار الأمر بينهم وبينه، وليست في مقام الأمر بطاعتهم له، أو في مقام تفضيل حكمه على حكم بعضهم على بعض، بل هي في مقام إثبات الولاية له عليهم، بحيث يملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم، لتأكيد جانب الحاكمية عليهم من قِبَله في ما جعله الله له من ولاية إلى جانب ما جعله له من النبوّة، وذلك من خلال التعبير عن المسألة من خلال فاعليته فيهم وسلطته عليهم بأكثر من سلطتهم على أنفسهم.