52- لا تحزن - أيها النبي - من محاولات هؤلاء الكفار ، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا ونبي من أنبيائنا أنه كلما قرأ عليهم شيئاً يدعوهم به إلى الحق تصدى له شياطين الإنس المتمردون لإبطال دعوته وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته ، فيزيل الله ما يدبِّرون ، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق ؛ حيث يثبت الله شريعته ، وينصر رسوله ، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم ، حكيم في أفعاله يضع كل شيء في موضعه .
قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة " النجم " فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } قال : فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغَرَانيق العلى . وإن شفاعتهن{[20350]} ترتجى " . قالوا : ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم . فسجَدَ وسجدوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] {[20351]} }
رواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، به نحوه{[20352]} ، وهو مرسل ، وقد رواه البزار في مسنده ، عن يوسف بن حماد ، عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - فيما أحسب ، الشك في الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة " النجم " ، {[20353]} حتى انتهى إلى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } ، وذكر بقيته . ثم قال البزار : لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور . وإنما يُروى هذا من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس{[20354]} .
ثم رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، وعن السدي ، مرسلا . وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، مرسلا أيضا{[20355]} .
وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم [ يصلي ]{[20356]} عند المقام إذ نَعَس ، فألقى الشيطان على لسانه " وإن شفاعتها لترتجى . وإنها لمع الغرانيق العلى " ، فحفظها المشركون . وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها ، فزَلَّت بها ألسنتهم ، فأنزل الله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ [ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ] {[20357]} } الآية ، فدَحَرَ الله الشيطان .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبِي ، حدثنا محمد بن فُلَيْح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ، فكان{[20358]} يتمنى هُداهم ، فلما أنزل الله سورة " النجم " قال : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى } ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت ، فقال : " وإنهن لهن الغرانيق العلى . وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى{[20359]} " . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، وزلت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمدا ، قد رجع إلى دينه الأول ، ودين قومه . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آخر النجم ]{[20360]} سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا ، فرفع على{[20361]} كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما{[20362]} من جماعتهم في السجود ، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين - ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي{[20363]} ألقى الشيطان في مسامع المشركين - فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان ، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين ، عثمان بن مظعون وأصحابه ، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه{[20364]} من الفرية ، وقال [ تعالى ]{[20365]} : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالهم{[20366]} وعداوتهم المسلمين ، واشتدوا عليهم . وهذا أيضًا مرسل .
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، نحوه{[20367]} . وقد رواه الإمام{[20368]} أبو بكر البيهقي في كتابه " دلائل النبوة " فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة ، ساقه في مغازيه بنحوه ، قال : وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة .
قلت : وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات ، فالله أعلم . وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ ، وغيرهما بنحو من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس ، من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك ، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم{[20369]} .
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته . وقد تعرض القاضي عياض ، رحمه الله ، في كتاب " الشفاء " لهذا ، وأجاب بما حاصله{[20370]} .
وقوله : { إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، هذا فيه تسلية له ، صلوات الله وسلامه عليه{[20371]} ، أي : لا يَهيدنّك ذلك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء .
قال البخاري : قال ابن عباس : { فِي أُمْنِيَّتِهِ } إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِذَا تَمَنَّى [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .
وقال مجاهد : { إِذَا تَمَنَّى } {[20372]} ] يعني : إذا قال .
ويقال : { أُمْنِيَّتِهِ } : قراءته ، { إِلا أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] ، يقولون ولا يكتبون .
قال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : { تَمَنَّى } أي : تلا وقرأ كتاب الله ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :
تَمَنّى كتَابَ الله أوّل لَيْلة *** وآخرَها لاقَى حمَامَ المَقَادرِ{[20373]}
وقال الضحاك : { إِذَا تَمَنَّى } : إذا تلا .
قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام .
وقوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } ، حقيقة النسخ لغة : الإزالة والرفع .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فيبطل الله - سبحانه وتعالى - ما ألقى الشيطان .
وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته .
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ{[20374]} } ، [ أي : بما يكون من الأمور والحوادث ، لا تخفى عليه خافية ]{[20375]} ، { حَكِيمٌ } أي : في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وشرك وكفر ونفاق ، كالمشركين حين فرحوا بذلك ، واعتقدوا أنه صحيح ، وإنما كان من الشيطان .
قال ابن جريج : { لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم : المنافقون { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } : المشركون .
وقال مقاتل بن حيان : هم [ الكافرون ]{[20376]} اليهود .
{ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : في ضلال ومخالفة وعناد بعيد ، أي : من الحق والصواب .
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي بعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا " وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى غليه في المنام . { إلا إذا تمنى } زور في نفسه ما يهواه . { ألقى الشيطان في أمنيته } في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام " وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله سبعين مرة " . { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون عليه والإرشاد إلى ما يزيحه . { ثم يحكم الله آياته } ثم يبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة . { والله عليم } بأحوال الناس . { حكيم } فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت . وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة " والنجم " فأخذ يقرؤها فلما بلغ { ومناة الثالثة الأخرى } وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية . وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله :
تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل
وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } لأنه أيضا يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم .