يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار ، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب فقال : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } أي : ما يشاء ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ، ومرجعها إليه .
وقوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } نفي على أصح القولين ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] .
وقد اختار ابن جرير أن { مَا } هاهنا بمعنى " الذي " ، تقديره : ويختار الذي لهم فيه خيرة . وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح . والصحيح أنها نافية ، كما نقله ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس وغيره أيضا ، فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار ، وأنه لا نظير له في ذلك ؛ ولهذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : من الأصنام والأنداد ، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَرَبّكَ يا محمد يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه ، ويَخْتارُ لولايته الخِيَرة من خلقه ، ومن سبقت له منه السعادة . وإنما قال جلّ ثناؤه ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ والمعنى : ما وصفت ، لأن المشركين كانوا فيما ذُكِر عنهم يختارون أموالَهم ، فيجعلونها لاَلهتهم ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار للهداية والإيمان والعمل الصالح من خلقه ، ما هو في سابق علمه أنه خِيَرَتهم ، نظير ما كان من هؤلاء المشركين لاَلهتهم خيار أموالهم ، فكذلك اختياري لنفسي . واجتبائي لولايتي ، واصطفائي لخدمتي وطاعتي ، خيارَ مملكتي وخلقي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنِي عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَرَبّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ قال : كانوا يجعلون خَيْر أموالهم لاَلهتهم في الجاهلية .
فإذا كان معنى ذلك كذلك ، فلا شكّ أن «ما » من قوله : ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ في موضع نصب ، بوقوع يختار عليها ، وأنها بمعنى الذي .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت ، من أن «ما » اسم منصوب بوقوع قوله يَخْتارُ عليها ، فأين خبر كان ؟ فقد علمت أن ذلك إذا كان كما قلت ، أن في كان ذِكْرا من ما ، ولا بدّ لكان إذا كان كذلك من تمام ، وأين التمام ؟ قيل : إن العرب تجعل لحروف الصفات إذا جاءت الأخبار بعدها أحيانا ، أخبارا ، كفعلها بالأسماء إذا جاءت بعدها أخبارها . ذَكر الفرّاء أن القاسمَ بن مَعْن أنشده قول عنترة :
أمِنْ سُمَيّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ *** لَوْ كانَ ذا مِنْكِ قبلَ اليوْمِ مَعْرُوفُ
فرفع معروفا بحرف الصفة ، وهو لا شكّ خبر لذا ، وذُكر أن المفَضّل أنشده ذلك :
*** لوْ أنّ ذا مِنْكِ قبلَ اليَوْمِ مَعْرُوفُ ***
ومنه أيضا قول عمر بن أبي ربيعة :
قُلْتُ أجيبِي عاشِقا *** بِحُبّكُمْ مُكَلّفُ
فِيها ثَلاث كالدّمَى *** وكاعِبٌ ومُسْلِفُ
فمكلّف من نعت عاشق ، وقد رفعه بحرف الصفة ، وهو الباء ، في أشباه لما ذكرنا بكثير من الشواهد ، فكذلك قوله : ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ رُفعت الخِيَرة بالصفة ، وهي لهم ، وإن كانت خبرا لما ، لما جاءت بعد الصفة ، ووقعت الصفة موقع الخبر ، فصار كقول القائل : كان عمرو أبوه قائم ، لا شكّ أن قائما لو كان مكان الأب ، وكان الأب هو المتأخر بعده ، كان منصوبا ، فكذلك وجه رفع الخِيَرة ، وهو خبر لما .
فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون «ما » في هذا الموضع جَحْدا ، ويكون معنى الكلام : وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار ما يشاء أن يختاره ، فيكون قوله ويخْتارُ نهاية الخبر عن الخلق والاختيار ، ثم يكون الكلام بعد ذلك مبتدأ بمعنى : لم تكن لهم الخيرة : أي لم يكن للخلق الخِيَرة ، وإنما الخِيَرة لله وحده ؟
قيل : هذا قول لا يخفى فساده على ذي حِجا ، من وجوه ، لو لم يكن بخلافه لأهل التأويل قول ، فكيف والتأويل عمن ذكرنا بخلافه فأما أحد وجوه فَساده ، فهو أن قوله : ما كانَ لَهُمُ الخيرَةُ لو كان كما ظنه من ظنه ، من أن «ما » بمعنى الجحد ، على نحو التأويل الذي ذكرت ، كان إنما جحد تعالى ذكره ، أن تكون لهم الخِيَرة فيما مضى قبل نزول هذه الاَية ، فأما فيما يستقبلونه فلهم الخِيَرة ، لأن قول القائل : ما كان لك هذا ، لا شكّ إنما هو خبر عن أنه لم يكن له ذلك فيما مضى . وقد يجوز أن يكون له فيما يستقبل ، وذلك من الكلام لا شكّ خُلْف . لأن ما لم يكن للخلق من ذلك قديما ، فليس ذلك لهم أبدا . وبعد ، لو أريد ذلك المعنى ، لكان الكلام : فليس . وقيل : وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ليس لهم الخيرة ، ليكون نفيا عن أن يكون ذلك لهم فيما قبلُ وفيما بعد .
والثاني : أن كتاب الله أبين البيان ، وأوضح الكلام ، ومحال أن يوجد فيه شيء غير مفهوم المعنى ، وغير جائز في الكلام أن يقال ابتداء : ما كان لفلان الخِيَرة ، ولما يتقدم قبل ذلك كلام يقتضي ذلك فكذلك قوله : «ويَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الخِيَرةُ » ولم يتقدم قبله من الله تعالى ذكره خبر عن أحد ، أنه ادّعى أنه كان له الخِيَرة ، فيقال له : ما كان لك الخِيَرة ، وإنما جرى قبله الخبر عما هو صائر إليه أمر من تاب من شركه ، وآمن وعمل صالحا ، وأتبع ذلك جلّ ثناؤه الخبر عن سبب إيمان من آمن وعمل صالحا منهم ، وأن ذلك إنما هو لاختياره إياه للإيمان ، وللسابق من علمه فيه اهتدى . ويزيد ما قلنا من ذلك إبانة قوله : وَرَبّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ فأخبر أنه يعلم من عباده السرائر والظواهر ، ويصطفي لنفسه ويختار لطاعته من قد علم منه السريرة الصالحة ، والعلانية الرضية .
والثالث : أن معنى الخيرة في هذا الموضع : إنما هو الخيرة ، وهو الشيء الذي يختار من البهائم والأنعام والرجال والنساء ، يقال منه : أُعطي الخيرة والخِيرَة ، مثل الطّيرة والطّيْرَة ، وليس بالاختيار ، وإذا كانت الخيرة ما وصفنا ، فمعلوم أن من أجود الكلام أن يقال : وربك يخلق ما يشاء ، ويختار ما يشاء ، لم يكن لهم خير بهيمة أو خير طعام ، أو خير رجل أو امرأة .
فإن قال : فهل يجوز أن تكون بمعنى المصدر ؟ قيل : لا ، وذلك أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الكلام : وربك يخلق ما يشاء ويختار كون الخيرة لهم . وإذا كان ذلك معناه ، وجب أن لا تكون الشرار لهم من البهائم والأنعام وإذا لم يكن لهم شرار ذلك وجب أن لا يكون لها مالك ، وذلك ما لا يخفى خطؤه ، لأن لخيارها ولشرارها أربابا يملكونها بتمليك الله إياهم ذلك ، وفي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلى معنى المصدر .
وقوله سبحانه وتعالى : عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالى ذكره تنزيها لله وتبرئة له ، وعلوّا عما أضاف إليه المشركون من الشرك ، وما تخرّصوه من الكذب والباطل عليه . وتأويل الكلام : سبحان الله وتعالى عن شركهم . وقد كان بعض أهل العربية يوجهه إلى أنه بمعنى : وتعالى عن الذي يشركون به .
وقوله تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار } الآية ، قيل سببها ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقول بعضهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }{[9163]} [ الزخرف : 31 ] فنزلت هذه الآية بسبب تلك المنازع ، ورد الله تعالى عليهم وأخبر أنه يخلق من عباده وسائر مخلوقاته ما يشاء وأنه يختار لرسالته من يريد ويعلم فيه المصلحة ثم نفى أن يكون الاختيار للناس في هذا ونحوه ، هذا قول جماعة من المفسرين{[9164]} أن { ما } نافية أي ليس لهم تخير على الله تعالى فتجيء الآية كقوله تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله }{[9165]} الآية [ الأحزاب : 36 ] .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد و { يختار } الله تعالى الأديان والشرائع وليس له الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام ونحوها في العبادة ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى : { سبحان الله وتعالى عما يشركون } ، وذهب الطبري إلى أن { ما } في قوله تعالى و { يختار ما كان } مفعولة ب { يختار } قال : والمعنى أن الكفار كانوا يختارون من أموالهم لأصنامهم أشياء فأخبر الله تعالى أن الاختيار إنما هو له وحده يخلق ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس لا كما يختارون هم ما ليس إليه ويفعلون ما لم يؤمروا به .
قال القاضي أبو محمد : واعتذر الطبري عن الرفع الذي أجمع القراء عليه في قوله تعالى : { ما كان لهم الخيرة } بأقوال لا تتحصل{[9166]} وقد رد الناس عليه في ذلك ، وذكر عن الفراء أن القاسم بن معن أنشده بيت عنترة : [ البسيط ]
أمن سمية دمع العين تذريف . . . لو كان ذا منك قبل اليوم معروف{[9167]}
وقرن الآية بهذا البيت والرواية في البيت لو أن ذا ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون الأمر والشأن مضمراً في كان وذلك في الآية ضعيف ، لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها مجرور وفي هذا كله نظر ، والوقف على ما ذهب إليه جمهور الناس في قوله { ويختار } وعلى ما ذهب إليه الطبري لا يوقف على ذلك ويتجه عندي أن يكون { ما } مفعولة إذا قدرنا { كان } تامة أي أن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه ، وقوله تعالى : { لهم الخيرة } جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله تعالى لهم لو قبلوا وفهموا .