المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

44- فلما تركوا الاتعاظ بما ابتليناهم من الفقر والمرض ، ابتليناهم بعد ذلك بالرزق الواسع ، ففتحنا عليهم أبواب كل شيء من أسباب الرزق ، حتى إذا فرحوا بما أنعمنا به عليهم ، ولم يشكروا الله عليه ، جاءهم العذاب فجأة ، فإذا هم متحيّرون يائسون ، لا يجدون للنجاة سبيلا !

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

40

وهذه الأمم التي يقص الله - سبحانه - من أنبائها على رسوله [ ص ] ومن وراءه من أمته . . لم تفد من الشدة شيئا . لم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد . . وهنا يملي لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء :

( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين )

إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيرا . . وفي الحديث : " عجبًا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " [ رواه مسلم ] .

فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . . فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . .

والتعبير القرآني : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول ؛ بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة !

إنه مشهد عجيب ؛ يرسم حالة في حركة ؛ على طريقة التصوير القرآني العجيب .

( حتى إذا فرحوا بما أوتوًا ) . .

وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ؛ واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ؛ وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ؛ وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . . عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل :

( أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون ) . .

فكان أخذهم على غرة ؛ وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . واذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

قوله : { فلمّا نسوا ما ذُكِّروا به } عطف على جملة { قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان } . والنسيان هنا بمعنى الإعراض ، كما تقدّم آنفاً في قوله : { وتَنسون ما تشركون } [ الأنعام : 41 ] . وظاهرٌ تفرّع الترك عن قسوة القلوب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم . و ( ما ) موصولة ماصْدَقُها البأساء والضرّاء ، أي لمّا انصرفوا عن الفطنة بذلك ولم يهتدوا إلى تدارك أمرهم . ومعنى { ذُكِّروا به } أنّ الله ذكّرهم عقابه العظيم بما قدّم إليهم من البأساء والضرّاء . و ( لمَّا ) حرف شرط يدلّ على اقتران وجود جوابه بوجود شرطه ، وليس فيه معنى السببية مثل بقية أدوات الشرط .

وقوله : { فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء } جواب { لمّا } والفتح ضدّ الغلق ، فالغلق : سد الفرجة التي يمكن الاجتياز منها إلى ما وراءها بباب ونحوه ، بخلاف إقامة الحائط فلا تسمّى غلقاً .

والفتح : جعْل الشيء الحاجز غيرَ حاجز وقابلاً للحجز ، كالباب حين يفتح . ولكون معنى الفتح والغلق نسبيين بعضهما من الآخر قيل للآلة التي يمسك بها الحاجز ويفتح بها مِفتاحاً ومِغْلاقاً ، وإنّما يعقل الفتح بعد تعقّل الغلق ، ولذلك كان قوله تعالى : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } مقتضياً أنّ الأبواب المراد ها هنا كانت مغلقة وقت أن أخذوا بالبأساء والضرّاء ، فعلم أنّها أبواب الخير لأنّها التي لا تجتمع مع البأساء والضرّاء .

فالفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغمّ كقوله : { ولو أنّ أهل القُرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] . ومنه تسمية النصر فتحنا لأنّه إزالة غمّ القهر .

وقد جُعل الإعراض عمَّا ذُكّروا به وقتاً لفتح أبواب الخير ، لأنّ المعنى أنّهم لمّا أعرضوا عن الاتِّعاظ بنُذر العذاب رفعنا عنهم العذاب وفتحنا عليهم أبواب الخير ، كما صُرّح به في قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبّيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثمّ بدّلنا مكان السيّئة الحسنة حتّى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } [ الأعراف : 94 ، 95 ] .

وقرأ الجمهور { فتحنا } بتخفيف المثنّاة الفوقية . وقرأه ابن عامر ، وأبو جعفر ورُويس عن يعقوب بتشديدها للمبالغة في الفتح بكثرته كما أفاده قوله { أبوابَ كلّ شيء } .

ولفظ ( كلّ ) هنا مستعمل في معنى الكثرة ، كما في قول النابغة :

بها كلّ ذيَّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أو استعمل في معناه الحقيقي ؛ على أنَّه عامّ مخصوص ، أي أبواب كل شيء يبتغونه ، وقد علم أنّ المراد بكلّ شيء جميع الأشياء من الخير خاصّة بقرينة قوله : { حتى إذا فرحوا } وبقرينة مقابلة هذا بقوله : { أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء } [ الأعراف : 79 ] ، فهنالك وصف مقدّر ، أي كلّ شيء صالح ، كقوله تعالى : { يأخذ كلّ سفينة غصبا } [ الكهف : 79 ] أي صالحة .

و { حتّى } في قوله : { حتَّى إذا فرحوا } ابتدائية . ومعنى الفرح هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم ، كما في قوله تعالى : { إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين } [ القصص : 76 ] . قال الراغب : ولم يرخّص في الفرح إلاّ في قوله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] . و ( إذا ) ظرف زمان للماضي .

ومراد الله تعالى من هذا هو الإمهال لهم لعلّهم يتذكّرون الله ويوحّدونه فتطهر نفوسهم ، فابتلاهم الله بالضرّ والخير ليستقصي لهم سببي التذكّر والخوف ، لأنّ من النفوس نفوساً تقودها الشدّة ونفوساً يقودها اللين .

ومعنى الأخذ هنا الإهلاك . ولذلك لم يذكر له متعلِّق كما ذكر في قوله آنفاً { فأخذناهم بالبأساء والضرّاء } للدلالة على أنَّه أخذ لا هوادة فيه .

والبغتة فعلة من البغْت وهو الفُجأة ، أي حصول الشيء على غير ترقّب عند من حصل له وهي تستلزم الخفاء . فلذلك قوبلت بالجهرة في الآية الآتية . وهنا يصحّ أن يكون مؤوّلاً باسم الفاعل منصوباً على الحال من الضمير المرفوع ، أي مباغتين لهم ، أو مؤوّلاً باسم المفعول على أنَّه حال من الضمير المنصوب ، أي مبغوتين ، { وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] .

وقوله : { فإذا هم مبلسون } ( إذا ] فجائية . وهي ظرف مكان عند سيبويه ، وحرف عند نحاة الكوفة .

والمبلسون اليائسون من الخير المتحيّرون ، وهو من الإبلاس ، وهو الوجوم والسكوت عند طلب العفو يأساً من الاستجابة .