الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

قوله تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به " يقال : لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم ؟ فالجواب : أن ( نسوا ) بمعنى تركوا ما ذكروا به ، عن ابن عباس وابن جريج ، وهو قول أبي علي ، وذلك لأن التارك للشيء إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي ، كما يقال : تركه . في النسي . جواب آخر : وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك ، كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه . " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " أي من النعم والخيرات ، أي كثرنا لهم ذلك . والتقدير عند أهل العربية : فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم . " حتى إذا فرحوا بما أوتوا " معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد ، وأنه دال على رضاء الله عز وجل عنهم " أخذناهم بغتة " أي استأصلناهم وسطونا بهم . و( بغتة ) معناه فجأة ، وهي الأخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة ، فإذا أخذ لإنسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة ، وأنكى شيء ما يفجأ من البغت . وقد قيل : إن التذكير الذي سلف - فأعرضوا عنه - قام مقام الإمارة . والله أعلم . و( بغتة ) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم ، فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال : " وأملي لهم إن كيدي متين{[6353]} " [ الأعراف : 183 ] نعوذ بالله من سخطه ومكره . قال بعض العلماء : رحم الله عبدا تدبر هذه الآية " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " . وقال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة . وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم ) ثم تلا " فلما نسوا ما ذكروا به " الآية كلها . وقال الحسن : والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخفف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه . وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها{[6354]} إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه . وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه وسلم : ( إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته ) .

قوله تعالى : " فإذا هم مبلسون " المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال ، قال العجاج :

يا صاح هل تعرف رَسْمًا مكرسا{[6355]} *** قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تحير لهول ما رأى ، ومن ذلك اشتق اسم إبليس ، أبلس الرجل سكت ، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة ، ضبعت الناق تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل .


[6353]:راجع ج 7 ص 329.
[6354]:في ج: في ذلك.
[6355]:المكرس: الذي صار فيه الكرس، والكرس (بالكسر): أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار والدمن. وأبلس: سكت غما.