المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

{ فلما نسوا } الآية ، عبر عن الترك بالنسيان إذا بلغ وجوه الترك الذي يكون معه نسيان وزوال المتروك عن الذهن ، وقرأ ابن عامر فيما روي عنه «فتّحنا » بتشديد التاء ، و { كل شيء } معناه مما كان سد عليهم بالبأساء والضراء من النعم الدنياوية ، فهو عموم معناه خصوص ، و { فرحوا } معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضى الله عنهم ، وهو استدراج من الله تعالى ، وقد روي عن بعض العلماء أنه قال : رحم الله عبداً تدبر هذه الآية { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } وقال محمد بن النضير الحارثي : أمهل القوم عشرين سنة ، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فذلك استدراج » ثم تلا { فلما نسوا } الآية كلها{[4918]} .

و { أخذناهم } ، وهو مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه ، و «المبلس » الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا ُيحير جواباً لشدة ما نزل به من سوء الحال{[4919]} .


[4918]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان مع بعض التغيير في الألفاظ، ورمز له في "الجامع الصغير" بأنه حديث حسن. وفي نفس المعنى قال الحسن: "والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه".
[4919]:- وجاء على هذا المعنى قول العجاج: يا صاح هل تعرف رسما ُمْكرسا؟ قال نعم أعرفه وَأْبَلسا أي: تحيّر لهول ما رأى وسكت غمّا، ومن ذلك اشتق اسم (إبليس)، والمُكرس: الذي صار فيه الكرس (بالكسر) وهو أبوال الإبل وأبعارها التي يتلبد بعضها على بعض في الدار والدّمن.