إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف ، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة ، مرهوبة الجانب ، عزيزة الجناب .
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة ، إلا وعدا واحدا : هو الجنة . ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا : هو الصبر . . فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب ، آتاها الله النصر ؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة ، وأن تنبذ عهود المشركين كافة ؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا . . لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا و الخبايا ، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة ، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب ، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . . لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير ، وإعلان المفاصلة للجميع ، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة ، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين ، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة : ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ، والله خبير بما تعملون ) .
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة ، وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة ، وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة ، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة ، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار .
وإنه لمن مصلحة الجماعة ، ومن مصلحة العقيدة ، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج ، وتعرف المداخل ، فيمتاز المكافحون المخلصون ، ويكشف المداورون الملتوون ، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته ، وإن كان الله يعلمهم من قبل :
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف ، وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
{ أم } منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر .
والكلام بعد { أم } المنقطعة له حكم الاستفهام دائماً ، فقوله : { حسبتم } في قوة ( أحسبتم ) والاستفهام المقدّر إنكاري .
والخطاب للمسلمين ، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم ، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام .
وحسبتم : ظننتم . ومصدر حسب ، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء .
والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه ، أي : أن يترككم الله ، فحُذف فاعل الترك لظهوره .
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق : من حال أو مجرور ، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه ، كقوله تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 2 ] ومثل قول عنترة :
وقول كبشة بنت معد يكرب ، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صَعْدة من بلاد اليمن :
وأُتْرَك في بيتتٍ بصَعْدة مُظْلِم
وحذف متعلِّق { تتركوا } في الآية : لدلالة السَياق عليه ، أي أن تتركوا دون جهاد ، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة .
والمعنى : كيف تحسبون أن تتركوا ، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله .
وجملة { ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم } إلخ في موضع الحال من ضمير { تتركوا } أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد ، وحصول تثاقل من تثاقلوا ، وحصول ترك الجهاد من التاركين .
و { لمّا } حرف للنفي ، وهي أخت ( لم ) . وقد تقدّم بيانها ، والفرق بينها وبين ( لم ) عند قوله تعالى : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : 214 ] وقوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } في سورة آل عمران } ( 142 ) .
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا : علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم ، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة ، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع ، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } في سورة آل عمران ( 142 ) .
و ( الوليجة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي الدخيلة ، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها ، فكأنّه يُولجها ، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر ، والمراد بها هنا : ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين ، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين ، لأنّ تنكير وليجة } في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها .
و { من دون الله } متعلّق ب { وليجة } في موضع الحال المبيّنة .
و { من } ابتدائية ، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين .
وجملة { والله خبير بما تعملون } تذييل لإنكار ذلك الحسبان ، أي : لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.