المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

195- فأجاب ربهم دعاءهم ، مبيناً لهم أنه لا يضيع على عامل منهم ثواب عمله ، سواء كان ذكراً أم أنثى ، فالأنثى من الذكر ، والذكر من الأنثى . الذين هاجروا يريدون وجه الله وأخرجوا من ديارهم ونالهم الأذى في سبيل الله وقاتلوا وتعرضوا للقتل ، وقتل منهم من قتل ، كتب الله على نفسه أنه سيمحو عنهم سيئاتهم ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار جزاءً كريماً عالياً من عند الله ، والله - وحده - عنده الثواب الحسن الجميل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

180

ثم . . طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك :

( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا ، وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي ، وقاتلوا وقتلوا ، لأكفرن عنهم سيئاتهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . . لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار ) . .

وهي استجابة مفصلة ، وتعبير مطول ، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ؛ وفق مقتضى الحال ، ومتطلبات الموقف ، من الجانب النفسي والشعوري .

ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية ، ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته ، ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .

إن أولي الألباب هؤلاء ، تفكروا في خلق السماوات والأرض ، وتدبروا اختلاف الليل والنهار ، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح ، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه ، فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم ، على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ؟

لقد كانت قبولا للدعاء ، وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن :

( استجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) . .

إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو " العمل " . العمل الإيجابي ، الذي ينشأ عن هذا التلقي ، وعن هذه الاستجابة ، وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر ، والذكر والاستغفار ، والخوف من الله ، والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة ، والذي يقبل من الجميع : ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .

ثم تفصيل للعمل ، تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ؛ كما تتبين منه طبيعة المنهج ، وطبيعة الأرض التي يقوم عليها ، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك ، وضرورة مغالبة العوائق ، وتكسيرالأشواك ، وتمهيد التربة للنبتة الطيبة ، والتمكين لها في الأرض ، أيا كانت التضحيات ، وأيا كانت العقبات :

( فالذين هاجروا ، وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله ، والله عنده حسن الثواب ) .

وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة ، وأخرجوا من ديارهم ، في سبيل العقيدة ، وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه ، وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور ، وتتأذى بها الأطماع والشهوات ، وتتعرض للأذى والمطاردة ، وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى ، وعلى الرغم من المطاردة ، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال ، ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات ، ويكون الجزاء ويكون الثواب .

هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني ، الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري ، وعن طريق هذا الجهد ، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .

وهذه هي طبيعة هذا المنهج ، ومقوماته ، وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية ، وطريقته في التوجيه ، للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ؛ إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ استجاب } استفعل بمعنى أجاب ، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر : [ الطويل ]

وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى . . . فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ{[3800]}

أي لم يجبه ، وقوله : { أني } يجوز أن تكون «أن » مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني » ، وقرأ عيسى بن عمر : «إني » بكسر الهمزة ، وهذه آية وعد من الله تعالى : أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر ، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك ، فنزلت الآية{[3801]} ، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء ، وقوله : { من ذكر } تبيين لجنس العامل ، وقال قوم : { من } زائدة لتقدم النفي من الكلام{[3802]} .

وقوله تعالى : { بعضكم من بعض } يعني في الأجر وتقبل العمل ، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد ، وبيّن تعالى حال المهاجرين ، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضاً إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح ، فالمعنى باق إلى يوم القيامة ، { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] و «هاجر » مفاعلة من اثنين ، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضاً فهي مهاجرة ، وقوله تعالى : { وأخرجوا من ديارهم } عبارة إلزام ذنب للكفار ، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب ، للكفار قيل { أخرجوا من ديارهم } ، { وإخراج أهله منه أكبر عند الله }{[3803]} ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء ، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم ، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . وردني *** إلى الله من طردت كل مطردِ{[3804]}

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت طردتني كل مطرد ؟ إنكاراً عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير : [ البسيط ]

في عصبةٍ مِنْ قريشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ . . . ببطنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا

زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ . . . عِنْدَ اللّقَاءِ وَلاَ مِيلٌ مَعَازِيلُ{[3805]}

وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو : «وقاتلوا وقتُلوا » بتخفيف التاء وضم القاف ، ومعنى هذه القراءة بيّن ، وقرأ ابن كثير : «وقاتلوا وقتّلوا » بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل ، وقرأ حمزة والكسائي : «وقتلوا وقاتلوا » يبدآن بالفعل المبني للمفعول به ، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة ، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة ، ومعنى قراءة حمزة هذه : إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء ، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى :

{ فما وهنوا لما أصابهم } [ آل عمران : 146 ] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين ، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : و «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء من غير ألف ، و «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء خفيفة ، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف ، وقرأ محارب بن ثار : «وقَتلوا » بفتح القاف «وقاتلوا » ، وقرأ طلحة بن مصرف : «وقُتّلوا » بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا » وهذه يدخلها إما رفض رتبه الواو ، وإما أنه قاتل من بقي ، واللام في قوله : { لأكفرن } لام القسم و { ثواباً } مصدر مؤكد مثل قوله : { صنع الله } [ النمل : 88 ] و { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] وباقي الآية بين{[3806]} .


[3800]:- البيت لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه هرما أو شبيبا، ويكنى أبا المغوار، والداعي هنا: السائل. ويجيب: يرد الجواب. واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: رب داع دعا: هل من أحد يمنح المستمنحين؟ فلم يجبه أحد. (خزانة الأدب 4/385).
[3801]:- أخرجه سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، والترمذي، وابن أبي حاتم، والحاكم. وصححه – عن أم سلمة. كما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني. (الشوكاني 1/379) و"الدر المنثور" 2/112. و"ابن كثير".
[3802]:- وقيل (من) في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في (منكم)- أي: عامل كائن منكم كائنا من ذكر أو أنثى. وقال أبو البقاء: [من ذكر أو أنثى] بدل من [منكم] بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر، ويكون بدلا تفصيليا من مخاطب-ويرد على أنه تفصيلي أنه عطف بأو- والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقول الشاعر: وكنتُ كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلّت
[3803]:- من الآية (217) من سورة البقرة.
[3804]:- هذا عجز بيت من قصيدة لأبي سفيان بن الحارث يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان مضى منه، وصدره: هداني هاد غير نفسي وردني إلى الله من طردت كل مطرد قال معلق السيرة: الذي في سائر الأصول هو: ودلني إلى الله. قال ابن هشام: ويروى: ودلني على الحق من طردت كل مطرد (القصة في سيرة ابن هشام 4/43).
[3805]:- الأنكاس: جمع نكس وهو الرذل المقصر عن غاية النجدة والكرم؛ الكشف: جمع أكشف وهو من لا يحمي رأسه بالبيضة، والأميل: الذي لا سلاح معه، وكذلك المعزال والأعزل.
[3806]:- قال أبو حيان في البحر المحيط: بدأ أولا بالخاص وهو الهجرة، وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة،وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار، وأتى ثالثا بالإذاية في سبيل الله، وهي أعمّ من أن تكون بالإخراج أو بغيره- ثم ارتقى بعد هذه الأوصاف السيئة إلى رتبة الجهاد والمقاومة والاستشهاد في دين الله، وبهذا جمع الله لهم بين رتب هذه الأعمال والظاهر الإخبار عمّن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي جاء بعده [لأكفرن عنهم سيئاتهم]..الخ
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب ، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة .

و ( استجاب ) بمعنى أجاب عند جمهور أيمّة اللغة ، فالسين والتاء للتأكيد ، مثل : استوقد واستخلص . وعن الفرّاء ، وعليّ بن عيسى الربعي : أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قَبِل ما دُعِي إليه ، وأجاب أعمّ ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ . وقال الراغب : الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيُّؤ له ، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها . ويقال : استجاب له واستجابه ، فعدّي في الآية باللام ، كما قالوا : حَمِدَ له وشكر له ، ويعدّي بنفسه أيضاً مثلهما . قال كعب بن سعد الغنوي ، يرثي قريباً له :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وتعبيرهم في دعائهم بوصف { ربنا } دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب ، ومحبّة الخير له ، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب ، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم : « ربَّنا ، ربَّنا » .

ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه : جَعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه .

فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم ، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطميناً لقلوبهم من وَجل عدم القبول ، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهم : { وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحَبَط .

وقوله : { من ذكر أو أنثى } بيان لعَامِلٍ ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد ، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّراً خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله ، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال ، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويُداوين الكلْمى ، ويسقين الجَيش ، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين ، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين .

وقوله : { بعضكم من بعض } ( من ) فيه اتّصالية أي بعضُ المستجاب لهم مُتّصل ببعض ، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء . قال تعالى : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر } [ التوبة : 67 ] إلخ . . . وقولهم : هو منّي وأنا منه ، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة :

فإنّي لستُ مِنْكَ ولستَ مِنِّي

وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد ، وعلى هذا فمَوقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله : { من ذكر أو أنثى } أي لأنّ شأنكم واحد ، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر ، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم ، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] .

والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلاً لمضمون قوله : { من ذكر أو أنثى } بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلّقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء ، وهو قضاء لحقّ ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها ، ليكون تمهيداً لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله : { فالذين هاجروا } ، الآيات .

وقوله : { فالذين هاجروا } تفريع عن قوله : { لا أضيع عمل عامل } وهو من ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بذلك الخاصّ ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل ، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون .

والمهاجَرة : هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره ، والمفاعلة فيها للتقوية كأنّه هَجر قومه وهَجَروه لأنّهم لم يحرصوا على بقائه ، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها ، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة .

وعطف قوله : { وأخرجوا من ديارهم } على { هاجروا } لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزّهم إليها قومهم ، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء ، من جهة سوء المعاملة ، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين ، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلّهم ، لما لاقوه من أذى المشركين . ولا يوجد ما يدلّ على أنّ المشركين أخرجوا المسلمين ، وكيف واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى المدينة يدلّ على حرص المشركين على صدّه عن الخروج ، ويدلّ لذلك أيضاً قول كعب :

في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم . . . ببطْن مكّةَ لمَّا أَسلموا زُولوا

أي قال قائل من المسلمين اخرُجوا من مكّة ، وعليه فكلّ ما ورد ممّا فيه أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير حقّ فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج ، ومنه قول ورقة ابن نوفل : « يا ليْتني أكون معكَ إذ يُخْرِجُك قومُك » ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : " أوَ مُخْرِجيّ هُم ؟ فقال : مَا جاء نَبيء بمثلِ ما جئْتَ به إلاّ عُودي " وقوله : { وأَوذوا في سبيلي } أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل . وفهم منه أنّ من أصابهم الضرّ أولى بالثواب وأوفى . وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها .

وقوله : { وقاتلوا وقتلوا } جُمع بينهما للإشارة إلى أنّ للقسمين ثواباً . وقرأ الجمهور : وقاتلوا وقُتلوا . وقَرَأ حَمزَة ، والكسائي ، وخلف : وقُتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد ، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا . وقوله : { لأكفرن عنهم سيئاتهم } إلخ مؤكّد بلام القسم . وتكفير السيّئات تقدّم آنفاً .