المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

2- ما كان للناس أن يَعجبوا ويُنكروا وحْينا إلى رجل منهم ( محمد ) ، ليُحذّر الناس من عذاب الله ، ويُبَشّر الذين آمنوا منهم بأن لهم منزلة عالية عند ربهم ، لا يتخلف وعد الله ، وما كان لهؤلاء المنكرين أن يقولوا عن محمد - رسولنا - : إنه ساحر واضح أمره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

1

( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ? قال الكافرون . إن هذا لساحر مبين ) :

سؤال استنكاري . يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل .

لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول : أبعث الله بشرا رسولا ? ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة " الإنسان " . عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة " الإنسان " الذي يتمثل فيهم . فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله ، وأن يتصل الله به - عن طريق الوحي - فيكلفه هداية الناس . إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكا أو خلقا آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله . غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق ؛ ومن تكريمه أن يكون أهلا لحمل رسالته ؛ وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص . هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول [ ص ] وشبهة أمثالهم في القرون الأولى . فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتا عن تلك !

إنهم يسألون : كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق . والذي ليس كمثله شيء ?

وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علما بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية ، كما أحاط علما بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه . وهو ما لا يدعيه أحد يحترم عقله ، ويعرف حدود هذا العقل . بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد ، ولم يقف العلم بعد حتى يقال : إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك . فضلا على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائما آفاق من المجهول بعد آفاق !

ففي الإنسان اذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله . والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة . وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس ، ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة . ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية ، وكل بنية ، وكل مخلوق ؛ وقادر على أن يطوع الإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها .

ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب . ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه . فللعلم ميدان . هو الميدان الذي يملك أدواته . وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها . والعلم لم يدع أنه يعرف شيئا حقيقا عن الروح . فهي ليست داخلة في نطاق عمله لأنها ليست شيئا قابلا للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله . لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح . أما ما يسمى " بالعلوم الروحانية " فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك ! ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاءنا من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس . إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية .

والعقل هنا في غير ميدانه ، وليس معه أدواته . لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان .

( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ? ) .

فهذه خلاصة الوحي : إنذار الناس بعاقبة المخالفة ، وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة . وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب . فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال .

والإنذار للناس جميعا . فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير : والبشرى للذين آمنوا وحدهم . وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار . . تلك المعاني التي توحي بها كلمة [ صدق ] مضافة إلى القدم . في جو الإنذار والتخويف . . " قدم صدق " . . قدم ثابتة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد ، في جو الإنذار وفي ظلال الخوف ، وفي ساعات الحرج . . ( قدم صدق عند ربهم ) . . في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة . حينما تتزلزل القلوب والأقدام .

وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم . رجل يعرفهم ويعرفونه ، يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه ، بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج . أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح ، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر ، وعقله هو أداته للتمييز . ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما غم عليه الأمر ، وأحاطت به الشبهات ، وجذبته التيارات والشهوات ، وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج ، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحيانا من النقيض إلى النقيض . هو في حاجةإلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه ، وينزل على إرشاده ، ويرجع إلى الصواب على هداه .

وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله .

وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها ؛ فيعرضها على هذا الميزان الثابت ، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها . . والقول بأن دين الله هو دائما " مفهوم البشر لدين الله " وأنه من ثم " متطور في أصوله " يعرض هذه القاعدة الأساسية في دين الله - وهي ثبات حقيقته وميزانه - لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية . بحيث لا يبقي هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية . .

والمسافة قصيرة بين هذا القول ، والقول بأن الدين من صنع البشر . . فالنتيجة النهائية واحدة ، والمزلق خطر وخطير للغاية ، والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد . . منه ومن نتائجه القريبة والبعيدة . .

ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو ، فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمرا عجيبا :

( قال الكافرون : إن هذا لساحر مبين ) . .

ساحر لأن ما ينطق به معجز . وأولى لهم - لو كانوا يتدبرون - أن يقولوا : نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز . فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة ، ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راق ، وما يرتكز عليه نظام متفرد . .

ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر ، لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها ؛ ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله ؛ فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}

ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]

لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}

وقول ذي الرمة : [ الطويل ]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .


[6000]:- قال القرطبي: "استفهام معناه التقرير والتوبيخ"، وقال الشوكاني: "لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ". وجعله الألوسي وأبو حيان للإنكار فقط.
[6001]:- قال أبو حيان: "وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية، وقيل: [كان] تامة، و[عجب] فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا؟ وهذا التوجيه حسن". فالشذوذ ناتج عنده عن فهم الزمخشري وابن عطية وليس في القراءة نفسها.
[6002]:-وهذا عجز بيت لحسان، وهو بتمامه: كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء والسبيئة: الخمر، وقد سبق الاستشهاد بهذا البيت عند تفسير قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت} الآية (35) من سورة (الأنفال).
[6003]:- ورواه في (اللسان): "القدم الأولى"، والقدم: السابقة وما تقدموا فيه غيرهم من الخير، والخلف: الباقي بعد الهالك والتابع له، سمي به المتخلف والخالف لا على جهد البدل، وجمعه: خلوف مثل قرن وقرون، والخلف هنا محمود، أما في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} فهو مذموم. والبيت من قصيدة له يذكر فيها الأيام الأولى من تاريخ المسلمين في المدينة، وهي أحد عشر بيتا.
[6004]:- أنشد هذا البيت الزمخشري في "أساس البلاغة" (قدم) قال: "ولفلان قدم في هذا الأمر: سابقة وتقدم، وله قدم صدق، قالوا ذو الرمة: "لكم قدم..." وهو في الديوان وتفسير الطبري: "مع الحسب العادي"، وفي الديوان: "على الفخر"، ومعنى العادي: القديم. ومعنى البيت: لكم سوابق تقدمت من الخير والفضل والحسب ما يعدّه الإنسان من مفاخره.
[6005]:-رواه البخاري في تفسير سورة (ق)، وفي الإيمان، وفي التوحيد، وكذلك رواه مسلم، والترمذي، والإمام أحمد في مواطن كثيرة في مسنده، ولفظه كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع قدمه فيها فتقول: قط قط)، وروى مثله عن أبي هريرة في لفظ طويل، ومثله عن أبي هريرة أيضا بلفظ موجز.
[6006]:- هذا الاحتمال غير وارد لأن بعض روايات الحديث في مسلم تقول: (حتى يضع رب العزة)، ولأن معنى الحديث يرفضه.
[6007]:- رجل صدق بفتح الصاد.جاء في الصحاح: "رجل صدق اللقاء وصدق النظر وقوم صُدُقٌ بالضم، مثل فرس ورد وأفراس ورد، وجون وجون". وفي المعجم الوسيط: الصدق: الكامل من كل شيء، يقال: "رمح صدق: مستو صلب، ورجل صدق اللقاء: ثبت فيه". ويقال كذلك بالكسر: رجل صدق. وأما السوء فبفتح السين: "يقال: رجل سوء وعمل سوء، ورجل السوء والرجل السوء" (المعجم الوسيط).