ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقراراً وتمكيناً :
( فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً . يذرؤكم فيه . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . .
فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء . . هو ( فاطر السماوات والأرض ) . . وهو مدبر السماوات والأرض . والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر . وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض ؛ فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض ، ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم ، والذي يحكم الله في أمره بلا شريك .
والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم ، وركبها : ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ) . . فنظم لكم حياتكم من أساسها ، وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم . وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا : ( ومن الأنعام أزواجاً ) . . فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود . . إنه هو الذي جعلكم - أنتم والأنعام - تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب . ثم تفرد هو دون خلقه جميعا ، فليس هنالك من شيء يماثله - سبحانه وتعالى - : ( ليس كمثله شيء ) . . والفطرة تؤمن بهذا بداهة . فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه . . ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عندما تختلف فيما بينها على أمر ، ولا ترجع معه إلى أحد غيره ؛ لأنه ليس هناك أحد مثله ، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف .
ومع أنه - سبحانه - ( ليس كمثله شيء ) . . فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل . فهو يسمع ويبصر : ( وهو السميع البصير ) . . ثم يحكم حكم السميع البصير .
وهو { فاطر السماوات والأرض } ، أي مخترعها وخالقها شق بعضها من بعض .
وقوله تعالى : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يريد : زوج الإنسان الأنثى ، وبهذه النعمة اتفق الَّذْرُء ، وليست الأزواج هاهنا الأنواع ، وأما الأزواج المذكورة مع الأنعام ، فالظاهر أيضاً والمتسق : أنه يريد : إناث الذكران ، ويحتمل أن يريد الأنواع ، والأول أظهر .
وقوله : { يذرؤكم } أي يخلقكم نسلاً بعد نسل وقرناً بعد قرن ، قاله مجاهد والناس ، فلفظة ذرأ : تزيد على لفظة : خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان .
وقوله : { فيه } الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله : { جعل لكم } ، وهذا كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه . وقال القتبي : الضمير للتزويج ، ولفظة : «في » مشتركة على معان ، وإن كان أصلها الوعاء وإليه يردها النظر في كل وجه .
وقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } الكاف مؤكدة للتشبيه ، فبقي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمرو ، فأذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، ومن هذا قول أوس بن حجر : [ المتقارب ]
وقتلى كمثل جذوع النخي . . . ل يغشاهمُ سيل منهمر{[10113]}
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهمُ . . . ما إن كمثلهم في الناس من أحد{[10114]}
فجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وتفترق الآية مع هذه الشواهد متى أردت أن تتبع بذهنك هذا اللفظ فتقدر للجزوع مثلاً موجوداً وتشبه القتل بذلك المثل أمكنك أو لا يمكنك هذا في جهة الله تعالى إلا أن تجعل المثل ما يتحصل في الذهن من العلم بالله تعالى ، إذ المثل والمثال واحد ، وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى : ليس كهو شيء . وقالوا لفظة مثل في الآية توكيد أو واقعة موقع هو{[10115]} .
قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد دخول الكاف تأكيداً أنها قد تدخل على الكاف نفسها ، وأنشد سيبويه :
وصاليات ككما يؤثفين . . . {[10116]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.