ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ، ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين :
( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . ومأواهم النار ، وبئس مثوى الظالمين ) . .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر ، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، كفيل بنهاية المعركة ، وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ، ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده ، والثقة المطلقة بهذه الولاية ، والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون ، وأن الله غالب على أمره ، وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه !
والتعامل مع وعد الله هذا ، مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه ، فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم !
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها ، لأن الله لم يمنحها سلطانا .
والتعبير ( ما لم ينزل به سلطانا ) ذو معنى عميق ، وهو يصادفنا في القرآن كثيرا . مرة توصف به الآلهة المدعاة ، ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة :
إن أية فكرة ، أو عقيدة ، أو شخصية ، أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من " الحق " أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ، ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية ، مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش !
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها . وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها ؛ وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم ؛ وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم . . ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه ، وواحدة منها !
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون ؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد ؛ وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ؛ ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ؛ ولتعبده وحده حق عبادته بلا انداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل ، فهو زائف باطل ، مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واه هزيل ، لا يحمل قوة ولا سلطانا ، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ؛ بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة !
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ؛ من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء ، وهم أبدا خوارون ضعفاء ؛ وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ، ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود ! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ؛ ولو كانت له الحشود ، وكان للحق القلة ، تصديقا لوعد الله الصادق :
( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ، ونادى أبو سفيان يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام : " إن شاء الله " . وقيل لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم . وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب بالضم على الأصل في كل القرآن{ بما أشركوا بالله } بسبب إشراكهم به { ما لم ينزل به سلطانا } أي آلهة ليس على إشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطانا وهو كقوله :
وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة لحدة اللسان . { ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } أي مثواهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل .
رجوع إلى تسلية المؤمنين ، وتطْمينهم ، ووعدهم بالنَّصر على العدوّ . والإلقاءُ حقيقته رمي شيء على الأرض { فألقوا حبالهم وعصيّهم } [ الشعراء : 44 ] ، أو في الماء { فألقِيه في اليمّ } [ القصص : 7 ] ويطلق على الإفضاء بالكلام { يُلقُون السمع } [ الشعراء : 223 ] وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقياً ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } [ المائدة : 64 ] وهو هنا مجاز في الجعل والتَّكوين كقوله : { وقذف في قلوبهم الرعب } [ الأحزاب : 26 ] .
والرعب : الفزع من شدّة خوف ، وفيه لغتان الرعْب بسكون العين والرعُب بضم العين وقرأه الجمهور بسكون العين وقرأه ابن عامر ، والكسائي بضم العين .
والبَاء في قوله : { بما أشركوا بالله } للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم : هذه بتلك ، وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] ، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به ، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة ، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له ، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل ، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض ، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به ، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة . فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة . كمَا لا يزال أتباعهم كذلك ، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم ، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها ، وعليه فقوله : { ما لم ينزل به سلطاناً } صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء ، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسبابِ إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا ، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة ، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان . فإن قلتَ : ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله ، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة ، والله يقول { سنلقي } » أي في المستقبل ، قلت : هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها ، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال ، وتقويان وتضعفان ، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار ، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى . كما وصفه عمرو بن الإطْنابَةِ في قوله :
وقَوْلي كُلَّمَا جَشَأتْ وجَاشَتْ *** مَكَانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي
وقول الحُصَيْننِ بن الحُمَام :
تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجدْ *** لِنَفْسِي حَيَاة مثلَ أنْ أتَقدّمَا
وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار ، فالمشركون لما انهزموا بادِىء الأمر يومَ أُحُد ، فُلَّت عزيمتهم ، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء ، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم ، ( وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل ) .
فقوله : { سنُلقي } أي إلقاءَ إعادةِ الصفة إلى النُّفوس ، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التَّأكيد أي ألقينا ونُلقي ، ويندفع الإشكال .
وكثير من المفسِّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر : منها أنّ المشركين لمَّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلاّ أنّ الرعب صدّهم عن ذلك ، لأنَّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة ، وتدور عليهم الدائرة ، ومنها أنَّهم لمَّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكَّة عنّ لهم في الطريق ندم ، وقالوا : لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه ، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلاّ الفَلّ والطَّريد ، فلْنرجع إليهم حتَّى نستأصلهم ، وبلغ ذلك النَّبيء صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم ، فانتدبوا ، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة ، حتَّى قيل : إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الَّذي كان حامله ، فقيّض الله مَعْبَد بنَ أبي مَعْبَد الخُزَاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال : « إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوَدِدْنا أنَّك لم تُرزأ في أصحابك » ثُمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوْحَاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان : ما وراءَك يا معبد ، قال : محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، فقال : ويلك ، ما تقول ؟ قال : ما أرى أنَّك ترتحلُ حتَّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلتُ فيه :
كَادَت تُهَدّ من الأصوات راحلتي *** إذْ سالت الأرض بالجُرْد الأبابيلِ
تَرْدِي بأسْدٍ كراممٍ لا تَنابِلَـــةٍ *** عند اللِّقاء ولا مِيـــلٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ أعْدُو وأظُنّ الأرض مائلة *** لمّا سَمَوا برَئيس غير مخــذولِ
فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميَّة : لا ترجعوا فإنِّي أرى أنَّه سيكون للقوم قتال غير الَّذي كان .
وقوله : { ما لم ينزل به سلطانا } أي ما لاسلطان له . والسلطان : الحجّة والبرهان لأنَّه يتسلّط على النّفس ، ونُفي تنزيله وأريد نَفْيُ وجوده ، لأنّه لو كان لنَزْل أي لأوْحى الله به إلى النَّاس ، لأنّ الله لم يكتم النَّاسَ الإرشادَ إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألْسنةِ الرسل ، فالتنزيل إمَّا بمعنى الوحي ، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم كقولهم : « نزلت الحكمة على ألْسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصّين » ولمَّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين : لأنَّه إمَّا أن يعلم بالوحي ، أو بالأمارات ، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه ، كقول الشاعر الّذي لا يعرف اسمه :
لا تُفْزع الأرْنَبَ أهوالُهَا *** ولا تَرَى الضبّ بها يَنْجَحِرْ
وقوله : { ومأواهم النار } ذِكر عقابهم في الآخرة . والمأوى مَفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه ، والمَثْوَى مَفعل من ثَوَى إذا أقام ؛ فالنَّار مصيرهم ومقرّهم والمرادُ المشركون .