176- يسألونك - أيها النبي - عن ميراث من مات ولا ولد له ولا والد ، فحكم الله فيه هو : أنه إذا كان للمُتَوَفى أخت ، فلها نصف تركته ، وأيضاً إذا كان للمتوفاة التي لا زوج لها ولا ولد أخ فله تركتها ، وإن كان للمُوَرِّث أختان فلهما ثلثا تركته{[46]} وإن كانوا إخوة من ذكور وإناث فنصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين . يبين الله لكم هذا البيان حتى لا تضلوا في تقسيم الأنصباء ، والله عالم علماً كاملاً بكل شيء من أعمالكم ، ومجازيكم عليها .
وهكذا تختم السورة التي بدأت بعلاقات الأسرة ، وتكافلها الاجتماعي ؛ وتضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها . . تختم بتكملة أحكام الكلالة - وهي على قول أبى بكر رضي الله عنه وهو قول الجماعة : ما ليس فيها ولد ولا والد .
وقد ورد شطر هذه الأحكام في أول السورة . وهو الشطر المتعلق بوراثة الكلالة من جهة الرحم حين لا توجد عصبة . وقد كان نصه هناك : ( وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة - وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - وصية من الله ، والله عليم حليم ) . .
فالآن يستكمل الشطر الآخر في وراثة الكلالة . . فإن كانت للمتوفى ، الذي لا ولد له ولا والد ، أخت شقيقة أو لأب ، فلها نصف ما ترك أخوها . وهو يرث تركتها - بعد أصحاب الفروض - إن لم يكن لها ولد ولا والد كذلك . فإن كانتا أختين شقيقتين أو لأب فلهما الثلثان مما ترك . وإن تعدد الإخوة والأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين - حسب القاعدة العامة في الميراث - والإخوة والأخوات الأشقاء يحجبون الإخوة والأخوات لأب حين يجتمعون .
وتختم آية الميراث ، وتختم معها السورة ، بذلك التعقيب القرآني الذي يرد الأمور كلها لله ، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات ، والأموال وغير الأموال بشريعة الله :
( يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ) . .
صيغة جامعة شاملة ( بكل شيء ) من الميراث وغير الميراث . من علاقات الأسر وعلاقات الجماعات . من الأحكام والتشريعات . . فإما اتباع بيان الله في كل شيء ، وإما الضلال . . طريقان اثنان لحياة الناس لا ثالث لهما : طريق بيان الله فهو الهدى . وطريق من عداه فهو الضلال .
{ يستفتونك } أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه . روي ( أن جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني كلالة فكيف أصنع في مالي ) فنزلت وهي آخر ما نزل من الأحكام .
{ قل الله يفتيكم في الكلالة } سبق تفسيرها في أول السورة . { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } ارتفع { امرؤ } بفعل يفسره الظاهر ، وليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك ، والواو في { وله } يحتمل الحال والعطف ، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة وابن الأم لا يكون عصبة ، والولد على ظاهره فإن الأخت وإن ورثت مع البنت عند عامة العلماء -غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لكنها لا ترث النصف . { وهو يرثها } أي والمرء يرث إن كان الأمر بالعكس . { إن لم يكن لها ولد } ذكرا كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها ، وإلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ ، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب وكذا مفهوم قوله : { قل الله يفتيكم في الكلالة } إن فسرت بالميت . { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى ، وفائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما . { وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } أصله وإن كانوا أخوة وأخوات فغلب المذكر . { يبين الله لكم أن تضلوا } أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه ، أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا . وقيل لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين . { والله بكل شيء عليم } فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات .
تقدم القول في تفسير { الكلالة } في صدر السورة ، وان المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل ، وبقي فيها من يتكلل ، أي : يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل ، وكان أَمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلاً فقال : ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة ، ولوددت أن رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر : ثلاث لو بينها رسول الله كان أحب إليَّ من الدنيا : الجد والكلالة ، والخلافة ، وأبواب من الربا{[4392]} ، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتاباً فمكث يستخير الله فيه ويقول : اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه ، فلما طعن دعا بالكتابة فمحي ، فلم يدر أحد ما كان فيه{[4393]} ، وروى الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال : ذكروا أن عمر رضي الله عنه قال : لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليَّ من جزية قصور الشام{[4394]} . وقال طارق بن شهاب : أخذ عمر بن الخطاب كتفاً وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا ، فقال عمر : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه{[4395]} ، وقال معدان بن أبي طلحة : خطب عمر بالناس يوم الجمعة فقال : إني والله ما أدع بعدي شيئاً هو أهم إليَّ من أمر الكلالة وقد سألت عنها رسول الله ، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف معها اثنان ممن يقرأ القرآن{[4396]} . وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة فقال : ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة ؟ وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة{[4397]} .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية الصيف هي هذه ، وروى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف { وإن كان رجل يورث كلالة }إلى آخر الآية{[4398]} .
قال القاضي رحمه الله : هذا هو الظاهر ، لأن البراء بن عازب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وقال كثير من الصحابة : هي من آخر ما نزل{[4399]} ، وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسببي ، عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت يا رسول الله : كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم يكن لي والد ولا ولد ؟ فنزلت الآية{[4400]} .
قال القاضي أبو محمد : وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكفيك منها آية الصيف ، بيان فيه كفاية وجلاء ، ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه ؟ إلا أن تكون دلالة اللفظ ولذلك قال بعضهم : { الكلالة } الميت نفسه{[4401]} ، وقال آخرون { الكلالة } المال ، إلى غير ذلك من الخلاف ، وإذا لم يكن في الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختاً ، فلها النصف فرضاً مسمى بهذه الآية ، فإن ترك الميت بنتاً وأختاً ، فللبنت النصف ، وللأخت النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى ، ولعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس ، وذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته : ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال ، أنزلها الله في أولي الأرحام{[4402]} .
وقرأ ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ » وقوله تعالى { أن تضلوا } معناه : كراهية أن تضلوا ، وحذر أن تضلوا فالتقدير . لئلا تضلوا ، ومنه قول القطامي في صفة ناقة : [ الوافُر ]
رَأَيْنا مَا يَرَى البُصَرَاءُ مِنْهَا *** فآلينا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعا{[4403]}
وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ { يبين الله لكم أن تضلوا } قال : اللهم من بَّينت له الكلالة فلم تتبّين لي{[4404]} .
لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللاّتي قبلها ، فوقوعها عقبها لا يكون إلاّ لأجْل نزولها عقب نزول ما تقدّمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض ؛ لأنّ في هذه الآية بياناً لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى : { ليس له ولد } ، وقد تقدّم في أوّل السّورة أنَّه ألحق بالكلالة المالك الّذي ليس له والد ، وهو قول الجمهور ومالك بن أنس .
فحكُم الكلالة قد بيّن بعضه في آية أول هذه السورة ، ثمّ إنّ النّاس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صورة أخرى من صور الكلالة . وثبت في الصحيح أنّ الذي سأله هو جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله وأبُو بكر ماشيين في بني سَلِمة فوجداني مغمى عليّ فتوضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبّ عليّ وَضوءه فأفقتُ وقلت : كيف أصنع في مالي فإنَّما يرثني كلالة . فنزل قوله تعالى : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } الآية . وقد قيل : إنّها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متجهّز لحجّة الوداع في قضية جابر بن عبد الله .
فضمير الجماعة في قوله : { يستفتونك } غير مقصود به جمع ، بل أريد به جنس السائلين ، على نحو : « ما بال أقوام يشترطون شروطاً » وهذا كثير في الكلام . ويجوز أن يكون السؤال قد تكرّر وكان آخرُ السائلين جابرَ بن عبد الله فتأخّر الجواب لمن سأل قبله ، وعُجّل البيان له لأنّه وقتُ الحاجة لأنّه كان يظنّ نفسه ميّتاً من ذلك المرض وأراد أن يوصي بماله ، فيكون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة .
والتعبير بصيغة المضارع في مادة السؤال طريقة مشهورة ، نحو : { يسألونك عن الأهلّة } [ البقرة : 189 ] ، { ويسألونك ماذا ينفقون } [ البقرة : 219 ] . لأنّ شأن السؤال يتكرّر ، فشاع إيراده بصيغة المضارع ، وقد يغلب استعمال بعض صيغ الفعل في بعض المواقع ، ومنه غلبة استعمال المضارع في الدعاء في مقام الإنكار : كقول عائشة « يرحم الله أبا عبد الرحمن » ( تعني ابن عمر ) . وقولهم : « يغفر الله له » . ومنه غلبة الماضي مع لا النافية في الدعاء إذا لم تكرّر لا ؛ نحو « فَلا رَجَع » . على أنّ الكلالة قد تكرّر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدها . وقد قال عمر بن الخطّاب : ما راجعتُ رسول الله في شيء مراجعتي إيَّاه في الكلالة ، وما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها حتّى طعن في نحري ، وقال : " يكفيك آية الصيف الّتي في آخر سورة النساء " وقوله : { في الكلالة } يتنازعه في التعلّق كلّ من فعل ( يستفتونك ) وفعل ( يفتيكم ) .
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بآية الصيف ، وعُرِفت بذلك ، كما عُرفت آية الكلالة التي في أوّل السورة بآية الشتاء ، وهذا يدلّنا على أنّ سورة النّساء نزلت في مدّة متفرّقة من الشتاء إلى الصيف وقد تقدّم هذا في افتتاح السورة .
وقد روي : أنّ هذه الآية في الكلالة نزلت في طريق حجّة الوداع ، ولا يصحّ ذلك لأنّ حجّة الوداع كانت في زمن البرد لأنّه لا شكّ أنّ غزوة تبوك وقعت في وقت الحرّ حين طابت الثّمار ، والنّاس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ، وذلك يقتضي أن تكون غزوة تبوك في نحو شهر أغسطس أو اشتنبر وهو وقت طيب البسر والرطب ، وكانت سنة تسع وكانت في رجب ونزل فيها قوله تعالى : { وقالوا لا تَنفِروا في الحرّ } [ التوبة : 81 ] . ثم كانت حجّة أبي بكر في ذي القعدة من تلك السنة ، سنة تسع ، وذلك يوافق دجنبر . وكان حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع في ذي الحجّة من سنة عشر فيوافق نحو شهر دجنبر أيضاً .
وعن عمر بن الخطّاب : أنَّه خطب فقال : « ثلاث لو بيَّنَها رسول الله لكان أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها : الجَدّ . والكلالةُ ، وأبوابُ الرّبا » . وفي رواية والخِلافة . وخطب أيضاً فقال : والله إنّي ما أدع بعدي شيئاً هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة . وقال في مجمع من الصحابة : لأقضينّ في الكلالة قضاء تتحدّث به النّساء في خدورها . وأنّه كتب كتاباً في ذلك فمكث يستخير الله فيه ، فلمّا طعن دعا بالكتاب فمحاه . وليس تحيّر عمر في أمر الكلالة بتحيْر في فهم ما ذكره الله تعالى في كتابه ولكنّه في اندراج ما لم يذكره القرآن تحت ما ذكره بالقياس . وقد ذكر القرآن الكلالة في أربع آيات : آيتَيْ هذه السورة المذكور فيها لفظ الكلالة ، وآية في أوّل هذه السورة وهي قوله : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } [ النساء : 11 ] . وآية آخر الأنفال ( 75 ) وهي قوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } في كتاب الله عند من رأى توارث ذوي الأرحام . ولا شكّ أنّ كلّ فريضة ليس فيها ولد ولا والد فهي كلالة بالاتّفاق ، فأمّا الفريضة التي ليس فيها ولد وفيها والد فالجمهور أنَّها ليست بكلالة . وقال بعض المتقدّمين : هي كلالة .
وأمَره بأن يجيب بقوله : { الله يفتيكم } للتنويه بشأن الفريضة ، فتقديم المسند إليه للاهتمام لا للقصر ، إذ قد علم المستفتون أنّ الرسول لا ينطق إلاّ عن وحي ، فهي لمّا استفتوه فإنّما طلبوا حكم الله ، فإسناد الإفتاء إلى الله تنويه بهذه الفريضة .
والمراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة أو الَّتي للأب في عدم الشقيقة بقرينة مخالفة نصيبها لنصيب الأخت للأمّ المقصودة في آية الكلالة الأولى ، وبقرينة قوله : { وهو يرثها } لأنّ الأخ للأمّ لا يرث جميع المال إن لم يكن لأخته للأمّ ولد إذ ليس له إلاّ السدس .
وقوله : { إن امرؤ هلك } تقديره : إن هلك امرؤ ، فامرؤ مخبَر عنه ب ( هلَكَ ) في سياق الشرط ، وليس ( هَلَك ) بوصف ل ( امرؤ ) فلذلك كان الامرؤ المفروض هنا جنساً عامّاً .
وقوله : { وهو يرثها } يعود الضمير فيه على لفظ ( امرؤ ) الواقع في سياق الشرط ، المفيد للعموم : ذلك أنَّه وقع في سياق الشرط لفظ ( امرؤ ) ولفظ ( أخ ) أو ( أخت ) ، وكلّها نكرات واقعة في سياق الشرط ، فهي عامّة مقصود منها أجناس مدلولاتها ، وليس مقصوداً بها شخص معيّن قد هلك ، ولا أخت معيّنة قد ورثت ، فلمّا قال { وهو يرثها } كان الضمير المرفوع راجعاً إلى ( امرؤ ) لا إلى شخص معيّن قَد هلك ، إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معيّن فلا يشكل عليك بأنّ قوله : { امرؤ هلك } يتأكّد بقوله : { وهو يرثها } إذ كيف يصير الهالك وارثاً . وأيضاً كان الضمير المنصوب في « يرثها » عائداً إلى مفهوم لفظ أخت لا إلى أخت معيّنة ، إذ ليس لمفهوم اللّفظ هنا فرد معيّن ، وعلم من قوله : { يرثها } أنّ الأخت إن توفّيت ولا ولد لها يرثها أخوها ، والأخ هو الوارث في هذه الصورة ، وهي عكس التي قبلها . فالتقدير : ويرث الأختَ امرؤ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد . وعلم معنى الإخوة من قوله : { وله أخت } ، وهذا إيجاز بديع ، ومَع غاية إيجازه فهو في غاية الوضوح ، فلا يشكل بأنّ الأخت كانت وارثة لأخيها فكيف عاد عليها الضمير بأن يرثها أخوها الموروث ، وتصير هي موروثة ، لأنّ هذا لا يفرضه عالم بالعربية ، وأنَّما يُتوهّم ذلك لو وقع الهلك وصفاً لامرىء ؛ بأن قيل : المرء الهالك يرثه وارثه وهو يرث وارثه إن مَات وارثه قبله . والفرق بين الاستعمالين رشيق في العربية .
وقوله : { يبيّن الله لكم أن تضلّوا } امتنان ، و { أن تضلّوا } تعليل ل ( يبيّنُ ) حذفت منه اللام ، وحذفُ الجار مع ( أن ) شائع . والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه ؛ لأنّ البيان ينافي التضليل ، فحُذفت لا النافية ، وحذفها مَوجود في مواقع من كلامهم إذا اتّضح المعنى ، كما ورد مع فعل القسم في نحو :
آليتُ حَبّ العِراق الدهرَ أطْعَمُه
نَزلتم منزل الأضياف منّا *** فعجَّلنا القِرى أنْ تشتمونا
أي أن لا تشتمونا بالبخل ، وهذا تأويل الكوفيين ، وتأوّل البَصريون الآية والبيت ونظائرهما على تقدير مضاف يدلّ عليه السياق هو المفعول لأجله ، أي كراهة أن تضلّوا ، وبذلك قدّرها في « الكشاف » .
وقد جعل بعض المفسّرين { أن تضلّوا } مفعولاً به ل ( يبيّن ) وقال : المعنى أنّ الله فيما بيّنه من الفرائض قد بيّن لكم ضَلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية ، وهذا بعيد ؛ إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالاً قبل مجيء الشريعة ، لأنّ قسمة المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بيّنه إلاّ إذا كان فيها حرمَان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرّة ، ولأنّ المصدر مع ( أن ) يتعيّن أن يكون بمعنى المستقبل ، فكيف يصحّ أن يراد ب { أن تضلّوا } ضلالاً قد مضى ، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى : { أن تقولوا إنَّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } في سورة الأنعام ( 156 ) .
وعن عمر أنَّه كان إذا قرأ هذه الآية يقول : اللَّهمّ من بُيِّنَتْ له الكلالةُ فلم تُبيَّنْ لي رواه الطبري ، وفي سنده انقطاع ، وقد ضعّفوه .
وقوله : { والله بكلّ شيء عليم } تذييل . وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام ، كقوله : { هذا بلاغ للنّاس وليُنذروا به } [ إبراهيم : 52 ] الآية ، وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب موسى { ذلك تأويل ما لم تسْطِع عليه صبراً } [ الكهف : 82 ] . فتُؤذن بختام السورة .
وتؤذن بختام التنزيل إن صح أنها آخر آية نزلت كما ذلك في بعض الروايات ، وإذا صح ذلك فلا أرى اصطلاح علماء بلدنا على أن يختموا تقرير دروسهم بقولهم « والله أعلم » إلا تيمنا بمحاكاة ختم التنزيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يستفتونك}، نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري وفي أخواته، {قل الله يفتيكم في الكلالة}، يعني به الميت الذي يموت وليس له ولد ولا والد، فهو الكلالة، وذلك أن جابر بن عبد الله الأنصاري، رحمه الله، مرض بالمدينة، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني كلالة لا أب لي ولا ولد، فكيف أصنع في مالي، فأنزل الله عز وجل: {إن امرؤ هلك}: مات، {ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} الميت من الميراث، {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} إذا ماتت قبله، {فإن كانتا اثنتين}: أختين {فلهما الثلثان مما ترك، {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا}: لئلا تخطئوا قسمة المواريث. {والله بكل شيء} من قسمة المواريث، {عليم}، نظيرها في الأنفال.
هذه الآي في المواريث كلها تدل على أن الله عز وجل انتهى بمن سَمَّى له فريضة إلى شيء، فلا ينبغي لأحد أن يزيد من انتهى الله به إلى شيء غير ما انتهى به ولا ينقصه، فبذلك قلنا: لا يجوز رد المواريث... وإذا ترك الرجل أخته أعطيتها نصف ما ترك، وكان ما بقي للعَصَبَةِ. فإن لم تكن عصبة فلمواليه الذين أعتقوه، فإن لم يكن له موال أعتقوه كان النصف مردودا على جماعة المسلمين من أهل بلده. ولا تزاد أخته على النصف، وكذلك لا يرد على وارث ذي قرابة، ولا زوج، ولا زوجة له فريضة، ولا تجاوز بذي فريضة فريضته، والقرآن ـ إن شاء الله تعالى ـ يدل على هذا، وهو قول زيد بن ثابت، وقول الأكثر ممن لقيت من أصحابنا. (الأم: 4/76. ون الأم: 4/77. والأم: 4/81. والرسالة: 586-588.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يَسْتَفْتُونَكَ": يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة. وقد بينا معنى الكلالة فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته، وبينا أن الكلالة عندنا ما عدا الولد والوالد. "إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ": إن إنسان من الناس مات.
"لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ذكر ولا أنثى وَلَهُ أُخْتٌ": وللميت أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه. "فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ": فلأخته التي تركها بعده بالصفة التي وصفنا نصف تركته ميراثا عنه دون سائر عصبته، وما بقي فلعصبته.
وذُكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمّهُم شأن الكلالة، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها هذه الآية... وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه الآية هي آخر آية أنزلت من القرآن.
واختلف في المكان الذي نزلت فيه الآية، فقال جابر بن عبد الله: نزلت في المدينة. وقال آخرون: بل أنزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه... فإن قال قائل: فما وجه قوله جلّ ثناؤه: "إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ "ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عباس وابن الزبير، على أن الميت لو ترك ابنة وأختا، أن لابنته النصف، وما بقي فلأخته إذا كانت أخته لأبيه وأمه أو لأبيه؟ وأين ذلك من قوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وقد ورّثوها النصف مع الولد؟ قيل: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، إنما جعل الله جلّ ثناؤه بقوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى وكان موروثا كلالة، النصف من تركته فريضة لها مسماة فأما إذا كان للميت ولد أنثى فهي مع عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها لو لم تكن، وذلك غير محدود بحدّ، ولا مفروض لها فرض سهام أهل الميراث بميراثهم عن ميتهم. ولم يقل الله في كتابه: فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه، فيكون لما رُوي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجه يوجه إليه، وإنما بين جلّ ثناؤه مبلغ حقها إذا ورث الميت كلالة وترك بيان مالها من حقّ إذا لم يورث كلالة في كتابه وبينه بوحيه على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت، وذلك معنى غير معنى وراثتها الميت إذا كان موروثا كلالة.
"وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ": وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله إذا وُرثت كلالة ولم يكن لها ولد ولا والد.
"فإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ": فإن كانت المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه اثنتين، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الميت إذا لم يكن له ولد وورث كلالة. "وَإنْ كانُوا إخْوَةً": وإن كان المتروكون من إخوته رجالاً ونساء، فللذّكَرِ منهم بميراثهم عنه من تركته "مِثْلَ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ": مثل نصيب اثنتين من أخواته، وذلك إذا ورث كلالة، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه، أو لأبيه.
"يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا": يبين الله لكم قسمة مواريثكم، وحكم الكلالة، وكيف فرائضهم "أنْ تَضِلّوا": لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها: أي لئلا تجوروا عن الحقّ في ذلك، وتخطئوا الحكم فيه، فتضلوا عن قصد السبيل. "وَاللّهُ بِكُلّ شَيّءٍ عَلِيمٌ": وَاللّهُ بكُلّ شَيْءٍ من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها وجميع الأشياء "عَلِيمٌ "يقول: هو بذلك كله ذو علم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
روي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: (ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم، أكثر مما سألته عن الكلالة، ثم طعن في صدري بإصبعه، فقال:"ألا تكفيك آية النصف التي في آخر سورة النساء" (مسلم 1617). وفيه دلالة أن قد ينزل بيان ما يدرك بالاجتهاد والنظر، ولا يتبين (إلا بأن يجتهد) ويدرك بالنظر لأن عمر رضي الله عنه سأل غير مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه، وأشار إلى الآية التي فيها ذكر (ما) سأل عنه لينظر، ويجتهد ليدرك. وفيه دليل جاوز تأخير البيان لأن عمر سأله غير مرة، ولم يبينه حتى أمره بالنظر في الآية، وعمر رضي الله عنه لم يكن عرف قبل ذلك، فدل جوازا تأخير البيان...
وقوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} ذكر للاثنتين الثلثين، ولم يذكر للثلاث فصاعدا منهن، وذكر في الابنة الواحدة النصف في أول السورة بقوله: {وإن كانت واحدة فلها النصف} ولم يذكر الثلاث فصاعدا بقوله: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} (الآية: 11) فترك بيان الحق في الابنتين لبيانه في الأختين، وترك البيان للأخوات لبيانه في البنات. ففيه دليل القياس حين اكتفى ببيان البعض عن الآخر...
وقوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} وعيد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قطع الخصومة بينهم في قسمة الميراث فيما أظهر لهم من النصِّ على الحكم، فإن المال محبَّبٌ إلى الإنسان، وجُبِلَت النفوس على الشحِّ؛ فلو لم ينص على مقادير الاستحقاق لقابلة الأشباه في الاجتهاد، فكان يؤدي ذلك إلى التجاذب والتواثب؛ فَحَسَمَ تلك الجملة بما نصَّ على المقادير في الميراث قطعاً للخصام.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تقدم القول في تفسير {الكلالة} في صدر السورة، وأن المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل، وبقي فيها من يتكلل، أي: يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى الْآيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى فَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً، فَلِأُخْتِهِ النِّصْفُ فَرِيضَةً مُسَمَّاةً. فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى فَهِيَ مَعَ الْأُنْثَى عَصَبَةٌ يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ، وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ؛ فَيَكُونُ لِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَجْهٌ؛ إذْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الْمَيِّتَ إذَا تَرَكَ بِنْتًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَخٌ ذَكَرٌ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّهَا إذَا وَرِثَتْ الْمَيِّتَ كَلَالَةً، وَتَرَكَ بَيَان مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إذَا لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً؛ فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيِ رَبِّهِ، فَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ إنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ وِرَاثَتَهَا فِي الْمَيِّتِ إذَا كَانَ مَوْرُوثًا عَنْ كَلَالَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}:
مَعْنَاهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ "فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ ضَلَالٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ وَلَمْ يَعْلَمْهَا عُمَرُ وَلَا اتَّفَقَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَمَا زَالَ الْخِلَافُ إلَى الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ.
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا ضَلَالًا، وَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الْمَوْعُودُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ نَصًّا يُدْرِكُهُ الْجَفْلَى، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَظْنُونًا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِيَرْفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وَيَتَصَرَّف الْمُجْتَهِدُونَ فِي مَسَالِكِ النَّظَرِ، فَيَدْرِك بَعْضُهُمْ الصَّوَابَ فَيُؤْجَرُ عَشَرَةَ أُجُورٍ، وَيُقَصِّرُ آخَرُ فَيُدْرِكُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَتَنْفُذُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وسئل الأخفش ما فائدة قوله {اثنتين} و {كانتا} لا يفسر إلا باثنتين؟ فقال: أفادت العدد العاري عن الصفة، لأنه يجوز في {كانتا} صغيرتين، أو حرتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلما قال: {اثنتين} فإذا إطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه.
قال تعالى: {والله بكل شيء عليم} فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. واعلم أن في هذه السورة لطيفة عجيبة، وهي أن أولها مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى فإنه قال: {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} وهذا دال على سعة القدرة، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله {والله بكل شيء عليم} وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلالة والعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعا للأوامر والنواهي منقادا لكل التكاليف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يستفتونك} أي يسألونك أن تفتيهم، أي أن تبين لهم بما عندك من الكرم والجود والسخاء ما انغلق عليهم أمره وانبهم لديهم سره من حكم الكلالة، وللاعتناء بأمر المواريث قال إشارة إلى أن الله لم يكل أمرها إلى غيره: {قل الله} أي الملك الأعظم {يفتيكم في الكلالة} وهو من لا ولد له؛ ولا والد روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}؛ ثم استأنف قوله: {إن امرؤ هلك} أي وهو موصوف بأنه، أو حال كونه {ليس له ولد} أي وإن سفل سواء كان ذكراً أو أنثى عند إرث النصف، وليس له أيضاً والد، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة وقد بينت ذلك السنة؛ قال الأصبهاني: وليسا بأول حكمين بُينَ أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر، والأب أولى من الأخ" {و} الحال أنه {له أخت} أي واحدة من أب شقيقة كانت أو لا، لأنه سيأتي أن أخاها يعصبها، فلو كان ولد أم لم يعصب {فلها نصف ما ترك وهو} أي وهذا الأخ الميت {يرثها} أي إن ماتت هي وبقي هو، جميع مالها {إن لم يكن لها ولد} أي ذكراً كان أو أنثى -كما مر في عكسه، هذا إن أريد بالإرث جميع المال، وإلا فهو يرث مع الأنثى كما أنها هي أيضاً ترث مع الأنثى- كما يرشد إليه السياق أيضاً -دون النصف.
ولما بين الأمر عند الانفراد أتبعه بيانه عند الاجتماع، وقدم أقله فقال: {فإن كانتا} أي الوارثتان ببيان السياق لهما وإرشاده إليهما؛ ولما أضمر ما دل عليه السياق، وكان الخبر صالحاً لأن يكون: صالحتين، أو صغيرتين، أو غير ذلك؛ بين أن المراد- كما يرشد إليه السياق أيضاً -مطلق العدد على أي وصف اتفق فقال: {اثنتين} أي من الأخوات للأب شقيقتين كانتا أو لا {فلهما الثلثان مما ترك} فإن كانت شقيقتين كان لكل منهما ثلث، وإن اختلفتا كان للشقيقة النصف وللتي للأب فقط السدس تكملة الثلثين.
ولما بين أقل الاجتماع أتبعه ما فوقه فقال: {وإن كانوا} أي الوارث {إخوة} أي مختلطين {رجالاً ونساء فللذكر} أي منهم {مثل حظ الأنثيين} وقد أنهى سبحانه ما أراد من بيان إرث الأخوة لأب، فتم بذلك جميع أحوال ما أراد من الإرث، وهو على وجازته كما ترى- يحتمل مجلدات -والله الهادي، ووضع هذه الآية هنا- كما تقدم -إشارة منه إلى أن من أبى توريث النساء والصغار الذي تكرر الاستفتاء عنه فقد استنكف عن عبادته واستكبر وإن آمن بجميع ما عداه من الأحكام، ومن استنكف عن حكم من الأحكام فذاك هو الكافر حقاً، وهذا مراد شياطين أهل الكتاب العارفين بصحة هذه الأحكام، الحاسدين لكم عليها، المريدين لضلالكم عنها لتشاركوهم في الشقاء الذي وقع لهم لما بدلوا الأحكام المشار إليهم بعد ذكر آيات الميراث وما تبعها من أحوال النكاح بقوله:
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} [النساء: 26] وقوله:
{ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] ثم المصرح بهم في قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم} [النساء: 44] ولذلك- والله أعلم -ختم هذه الآية بقوله: {يبين الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {لكم} أي ولم يكلكم في هذا البيان إلى بيان غيره، وقال مرغباً مرهباً: {أن} أي كراهة أن {تضلوا "والله "أي الذي له الكمال كله {بكل شيء عليم} أي فقد بين لكم بعلمه ما يصلحكم بيانه محيا ومماتاً دنيا وأخرى، حتى جعلكم على المحجة البيضاء في مثل ضوء النهار، لا يزيغ عنها منكم إلا هالك، والحاصل أن تأخير هذه الآية إلى هنا لما تقدم من أن تفريق القول فيما تأباه النفوس وإلقاءه شيئاً فشيئاً باللطف والتدريج أدعى لقبوله، وللإشارة إلى شدة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أولها وأثنائها وآخرها، والتخويف من أن يكون حالهم كحال المنافقين في إضلال أهل الكتاب لهم بإلقاء الشبهة وأخذهم من الموضع الذي تهواه نفوسهم، ومضت عليه أوائلهم، وأشربته قلوبهم، والترهيب من أن يكونوا مثلهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض، فيؤديهم ذلك إلى إكمال الكفر، لأن الدين لا يتجزأ، بل من كفر بشيء منه كفر به جميعه، ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء، فكأنه قيل: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر- ولو عن حكم من أحكامه -فسيجازيه يوم الحشر، ولا يجد له من دون الله ناصراً؛ ولا يخفى عليه شيء من حاله، وما أشد مناسبة ختامها بإحاطة العلم لما دل عليه أولها من تمام القدرة، فكان آخرها دليلاً على أولها لأن تمام العلم مستلزم لشمول القدرة، قال الإمام: وهذان الوصفان هما اللذان بهما ثبتت الربوية والإلهية والجلال والعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاًَ للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف- انتهى. ولختام أول آية فيها بقوله:
{إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] أي وهو بكل شيء من أحوالكم وغيرها عليم، فلا تظنوا أنه يخفى عليه شيء وإن دقَّ، فليشتد حذركم منه ومراقبتكم له، وذلك أشد شيء مناسبة لأول المائدة -والله الموفق بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجملة القول: إن الكلالة من الوارثين من كل وأعيا عن أن يصل إلى الميت المورث بنفسه فهو يصل إليه بواسطة من يتصل نسبه به بالذات، وإنما النسب المتصل بالذات الأصل والفرع، وما علا من الأصول وسفل من الفروع هو عمود النسب فلا يكون كلالة، فالكلالة من الوارثين إذا هم الحواشي الذين يدلون إلى الميت بواسطة الأبوين أحدهما أو كليهما من الأطراف. والكلالة من المورثين هو الذي يرثه غير الولد والوالد فهذا ما كان يفهمه الصحابة لأنه المعروف في العربية ولا صحة لغيره،...
. والنكتة في الاكتفاء بنفي الولد وعد اشتراط نفي الوالد تظهر بوجوده:
- أنه داخل في مفهوم الكلالة لغة.
- أن الأكثر أن الإنسان يموت عن تركه بعد موت والده لأن المال الذي يتركه إما أن يكون ورثه منهما وإما أن يكون اكتسبه وإما يكون الكسب في سن الشباب والكهولة ويقل في هذا الحال بقاء الوالدين فلم يراع في الذكر إيجازا.
- وهو العمدة أن عدم إرث الإخوة والأخوات مع الوالد الذي يدلون به قد علم من آيات الفرائض التي أنزلت أولا وتقدمت في أوائل السورة، ومضت السنة في بيانها والعمل بها على ذلك – وعلم أيضا من القاعدة القياسية المأخوذة من تلك الآيات ومن هذه الآية، وهي كون الأصل في الإرث أن يكون للذكر من كل صنف مثل حظ الأنثيين، ومن قاعدة حجب الوالد لأولاده. قال تعالى في الآيات الأولى {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء:11] أي والباقي وهو الثلثان لأبيه عملا بالقاعدة. {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11] لأن أولادها يحجبونها حجب نقصان فيكون ثلثها سدسا، والسدس الآخر يكون لهم عند ابن عباس وأما الجمهور فيقول إن الباقي كله لأن الآية بينت أن وجودهما ينقص فرضا ولم تفرض لهم شيئا، وعلى كل قول ليس لهم فرض مع وجود الأب الذي يحجبهم حجب حرمان لأنهم لا يصلون إلى أخيهم إلا به وما يتركه من هذا المال وغيره يعود إليهم، فلهذه الوجوه لم يكن لاشتراط عدم الأب فائدة فترك إيجازا للعلم به من لفظ الكلالة ومن الآيات السابقة والقواعد الثابتة، وكذا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبني على ما ذكر والمبين له وهو ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وليس الاستغناء عن نفي الوالد هنا مع إرادته إلا مثل الاستغناء عن اشتراط ن يكون هذا الفرض من بعد وصية يوصي بها أو دين، كل منهما علم مما قبله، فاستغني عن إعادة ذكره، بل الاستغناء عن ذكر نفي الوالد أقوى لما ذكرناه من العلم به من اللفظ، وكون الغالب أنه لا يوجد، وكونه إن وجد يكون حجبه لأولاده معلوما قطعيا لأنه منصوص ومقيس. وإنما أطلت في هذه المسألة وكررت بعض المعاني لاضطراب المتقدمين والمتأخرين في الكلالة وعدم الاطلاع على بيان تام في التوفيق بين ما جرى عليه جمهور الصحابة واتفق عليه المتأخرون وبين عبارة القرآن المجيد، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتختم آية الميراث، وتختم معها السورة، بذلك التعقيب القرآني الذي يرد الأمور كلها لله، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات، والأموال وغير الأموال بشريعة الله: (يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم).. صيغة جامعة شاملة (بكل شيء) من الميراث وغير الميراث. من علاقات الأسر وعلاقات الجماعات. من الأحكام والتشريعات.. فإما اتباع بيان الله في كل شيء، وإما الضلال.. طريقان اثنان لحياة الناس لا ثالث لهما: طريق بيان الله فهو الهدى. وطريق من عداه فهو الضلال. وصدق الله: فماذا بعد الحق إلا الضلال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللاّتي قبلها، فوقوعها عقبها لا يكون إلاّ لأجْل نزولها عقب نزول ما تقدّمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض؛ لأنّ في هذه الآية بياناً لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى: {ليس له ولد}، وقد تقدّم في أوّل السّورة أنَّه ألحق بالكلالة المالك الّذي ليس له والد، وهو قول الجمهور ومالك بن أنس.
فحكُم الكلالة قد بيّن بعضه في آية أول هذه السورة، ثمّ إنّ النّاس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صورة أخرى من صور الكلالة. وثبت في الصحيح أنّ الذي سأله هو جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله وأبُو بكر ماشيين في بني سَلِمة فوجداني مغمى عليّ فتوضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبّ عليّ وَضوءه فأفقتُ وقلت: كيف أصنع في مالي فإنَّما يرثني كلالة. فنزل قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} الآية. وقد قيل: إنّها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متجهّز لحجّة الوداع في قضية جابر بن عبد الله.
فضمير الجماعة في قوله: {يستفتونك} غير مقصود به جمع، بل أريد به جنس السائلين، على نحو: « ما بال أقوام يشترطون شروطاً» وهذا كثير في الكلام. ويجوز أن يكون السؤال قد تكرّر وكان آخرُ السائلين جابرَ بن عبد الله فتأخّر الجواب لمن سأل قبله، وعُجّل البيان له لأنّه وقتُ الحاجة لأنّه كان يظنّ نفسه ميّتاً من ذلك المرض وأراد أن يوصي بماله، فيكون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
والتعبير بصيغة المضارع في مادة السؤال طريقة مشهورة، نحو: {يسألونك عن الأهلّة} [البقرة: 189]، {ويسألونك ماذا ينفقون} [البقرة: 219]. لأنّ شأن السؤال يتكرّر، فشاع إيراده بصيغة المضارع، وقد يغلب استعمال بعض صيغ الفعل في بعض المواقع، ومنه غلبة استعمال المضارع في الدعاء في مقام الإنكار: كقول عائشة « يرحم الله أبا عبد الرحمن» (تعني ابن عمر). وقولهم: « يغفر الله له». ومنه غلبة الماضي مع لا النافية في الدعاء إذا لم تكرّر لا؛ نحو « فَلا رَجَع». على أنّ الكلالة قد تكرّر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدها. وقد قال عمر بن الخطّاب: ما راجعتُ رسول الله في شيء مراجعتي إيَّاه في الكلالة، وما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها حتّى طعن في نحري، وقال:"يكفيك آية الصيف الّتي في آخر سورة النساء" وقوله: {في الكلالة} يتنازعه في التعلّق كلّ من فعل (يستفتونك) وفعل (يفتيكم).
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بآية الصيف، وعُرِفت بذلك، كما عُرفت آية الكلالة التي في أوّل السورة بآية الشتاء، وهذا يدلّنا على أنّ سورة النّساء نزلت في مدّة متفرّقة من الشتاء إلى الصيف وقد تقدّم هذا في افتتاح السورة...
وأمَره بأن يجيب بقوله: {الله يفتيكم} للتنويه بشأن الفريضة، فتقديم المسند إليه للاهتمام لا للقصر، إذ قد علم المستفتون أنّ الرسول لا ينطق إلاّ عن وحي، فهي لمّا استفتوه فإنّما طلبوا حكم الله، فإسناد الإفتاء إلى الله تنويه بهذه الفريضة.
والمراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة أو الَّتي للأب في عدم الشقيقة بقرينة مخالفة نصيبها لنصيب الأخت للأمّ المقصودة في آية الكلالة الأولى، وبقرينة قوله: {وهو يرثها} لأنّ الأخ للأمّ لا يرث جميع المال إن لم يكن لأخته للأمّ ولد إذ ليس له إلاّ السدس.
وقوله: {إن امرؤ هلك} تقديره: إن هلك امرؤ، فامرؤ مخبَر عنه ب (هلَكَ) في سياق الشرط، وليس (هَلَك) بوصف ل (امرؤ) فلذلك كان الامرؤ المفروض هنا جنساً عامّاً.
وقوله: {وهو يرثها} يعود الضمير فيه على لفظ (امرؤ) الواقع في سياق الشرط، المفيد للعموم: ذلك أنَّه وقع في سياق الشرط لفظ (امرؤ) ولفظ (أخ) أو (أخت)، وكلّها نكرات واقعة في سياق الشرط، فهي عامّة مقصود منها أجناس مدلولاتها، وليس مقصوداً بها شخص معيّن قد هلك، ولا أخت معيّنة قد ورثت، فلمّا قال {وهو يرثها} كان الضمير المرفوع راجعاً إلى (امرؤ) لا إلى شخص معيّن قَد هلك، إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معيّن فلا يشكل عليك بأنّ قوله: {امرؤ هلك} يتأكّد بقوله: {وهو يرثها} إذ كيف يصير الهالك وارثاً. وأيضاً كان الضمير المنصوب في « يرثها» عائداً إلى مفهوم لفظ أخت لا إلى أخت معيّنة، إذ ليس لمفهوم اللّفظ هنا فرد معيّن، وعلم من قوله: {يرثها} أنّ الأخت إن توفّيت ولا ولد لها يرثها أخوها، والأخ هو الوارث في هذه الصورة، وهي عكس التي قبلها. فالتقدير: ويرث الأختَ امرؤ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد. وعلم معنى الإخوة من قوله: {وله أخت}، وهذا إيجاز بديع، ومَع غاية إيجازه فهو في غاية الوضوح، فلا يشكل بأنّ الأخت كانت وارثة لأخيها فكيف عاد عليها الضمير بأن يرثها أخوها الموروث، وتصير هي موروثة، لأنّ هذا لا يفرضه عالم بالعربية، وأنَّما يُتوهّم ذلك لو وقع الهلك وصفاً لامرئ؛ بأن قيل: المرء الهالك يرثه وارثه وهو يرث وارثه إن مَات وارثه قبله. والفرق بين الاستعمالين رشيق في العربية.
وقوله: {يبيّن الله لكم أن تضلّوا} امتنان، و {أن تضلّوا} تعليل ل (يبيّنُ) حذفت منه اللام، وحذفُ الجار مع (أن) شائع. والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه؛ لأنّ البيان ينافي التضليل، فحُذفت لا النافية، وحذفها مَوجود في مواقع من كلامهم إذا اتّضح المعنى...
وقد جعل بعض المفسّرين {أن تضلّوا} مفعولاً به ل (يبيّن) وقال: المعنى أنّ الله فيما بيّنه من الفرائض قد بيّن لكم ضَلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية، وهذا بعيد؛ إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالاً قبل مجيء الشريعة، لأنّ قسمة المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بيّنه إلاّ إذا كان فيها حرمَان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرّة، ولأنّ المصدر مع (أن) يتعيّن أن يكون بمعنى المستقبل، فكيف يصحّ أن يراد ب {أن تضلّوا} ضلالاً قد مضى، وسيجيئ زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى: {أن تقولوا إنَّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} في سورة الأنعام (156).
وقوله: {والله بكلّ شيء عليم} تذييل. وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام، كقوله: {هذا بلاغ للنّاس وليُنذروا به} [إبراهيم: 52] الآية، وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب موسى {ذلك تأويل ما لم تسْطِع عليه صبراً} [الكهف: 82]. فتُؤذن بختام السورة.
وتؤذن بختام التنزيل إن صح أنها آخر آية نزلت كما ذلك في بعض الروايات، وإذا صح ذلك فلا أرى اصطلاح علماء بلدنا على أن يختموا تقرير دروسهم بقولهم « والله أعلم» إلا تيمنا بمحاكاة ختم التنزيل.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}. وكان ختام السورة ببعض أحكام الميراث تذكيرا بأمرين: أولهما: أن الأسرة هي الخلية الأولى التي يتربى فيها النزع الاجتماعي بكل ضروبه وكل شعبه وأنه لا يوجد مجتمع صالح إلا بأسر صالحة، وفساد الأسرة فيه فساد المجتمع. ثانيهما: أن أحكام الأسرة مستمدة من الله تعالى من غير توسط أحد كبيرا كان أو صغيرا، وأن مخالفة أحكام الله تعالى ضلال ليس بعده ضلال، ولذا ختمت السورة بأن بيان الله تعالى لمنع الضلال،... والاستفتاء طلب الفتيا، أو الإفتاء والإفتاء الإجابة السريعة التي تكون جديدة بالنسبة للسائل الطالب لها، وأصل الفتيا من الفتاء والفتى والفتاة الطري الشباب المقبل على الجديد فيها، وأطلق على العبد فتى، وعلى الأمة فتاة لسرعة استجابتها لحاجة مولاها...
وقد ذيل الله تعالى الآية بقوله {والله بكل شيء عليم} وفي هذا إشارة إلى أن شرعه أحكم شرع، لأنه شرع من يعلم كل شيء، من يعلم الماضي والقابل والعدل على أتم وجوهه والمصلحة المستقرة الثابتة التي لا تعبث بها الأهواء ثم هو عليم بمن يخالفه ويعصيه ومن يطيعه ويرضى حكمه. وتجب الإشارة هنا إلى أمر بياني يقتضي التفسير ذكره هو أن الله تعالى يقول: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وهنا لم يبين في السؤال موضع الاستفتاء ولكن الإجابة بينته فاستبان، ويلاحظ أنهم سألوا النبي ولكن الله تول الإجابة هو، فقال: {قل الله يفتيكم} ونجد في مثل هذا المقام يقول الله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير (220)} (البقرة). ولم يسند الأمر إلى ذاته العلية كما أسنده هنا فما السر؟ السر في ذلك هو تأكيد أن شرع الميراث منسوب للذات العلية وهو الذي يتولى الشرح، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى الشرح عنه في كثير، فهنا قد تولى هو توثيقا للحكم وتأكيدا له وتربية للمهابة. ويلاحظ أن أحكام الميراث كلها أسندها العلي الحكيم، العليم الخبير لنفسه، فابتدأ آياتها في أول السورة بقوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين (11)} (النساء) وختمها بأن الميراث كله وصية الله تعالى، فقال تعالت كلماته: {...وصية من الله والله عليم حليم (12) تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14) (النساء).
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
خلاصة السورة: افتتحت السورة بالأمر بالتقوى وذكر بدء خلق الناس وتناسلهم، ثم بالأحكام المتعلقة بالبيوت (الأهل والعشيرة) وحقوق اليتامى والنساء المالية والأدبية، ومنها فرائض المواريث وإرث النساء وعضلهن وعقاب من يأتي الفاحشة من الجنسين، ومحرمات النكاح ومحللاته، وغير ذلك من أحكام الأزواج وحقوق الزوجية. فهذا نسق واحد في خمس وثلاثين آية تتخللها على سنة القرآن الوصية بالتقوى والترغيب في الطاعة عليها والوعيد على المعاصي وغير ذلك من المواعظ التي تغذي الإيمان بالله وتزكي النفس. يلي ذلك محاجة أهل الكتاب من اليهود ممهدا لها بالأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الشرك والأمر بالإحسان بالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والجيران، وتشنيع البخل وكتمان نعم الله ووعيد الكفر وعصيان الرسول. وذلك في بضع آيات ليس فيها من آيات الأحكام شيء إلا ما ختمت به من آية التيمم المفتتحة بالنهي عن الصلاة في حال السكر. ثم صرح بعدها بحكاية أحوال اليهود في دينهم وأخلاقهم، وبين ما في ذلك من العبر، وما يستحقون عليه من الوعيد، ليعلم منه سنة الله وحكمه فيمن يعمل مثل عملهم، وتكون حاله كحالهم، كما وعد من كان على ضد ذلك وهو الإيمان والصلاح لأجل العبرة والقدوة. وذلك من آية 43 إلى 56.
ولما كان في بيان أحوال اليهود ذكر لحالهم في الملك لو كان لهم نصيب منه وهو الأثر وحرمان غيرهم من أقل منفعة، بين عقبه ما يجب أن تؤسس عليه الحكومة الإسلامية وهو أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس كلهم بالعدل بلا محاباة، وإطاعة الله فيما جاء في الكتاب من الأحكام، وإطاعة رسوله فيما مضت به سنته: مِن بيانها والقضاء بها أو باجتهاده صلى الله عليه و سلم، وأولي الأمر وهم أهل الحل والعقد فيما يضعون للناس من النظام المدني والسياسي مما يحتاجون إليه بحسب المصالح العامة في كل عصر، فيكون ما يضعونه مطاعا في الدرجة الثالثة.
ثم شرع في بيان أحوال المنافقين وأخلاقهم وما يجب أن يعاملوا به وأهم ذلك أحوالهم ومعاملتهم في وقت القتل، وبهذه المناسبة ذكرت أحكام وحكم ومواعظ كثيرة تتعلق بالقتال والهجرة والأمان وقتل الخطأ والعمد وصلاة الخوف والسفر، وقد أكد في أثناء هذه الآيات أمر طاعة الله ورسوله، فهذا سياق بدئ به من آية 57 وانتهى إلى 103.
بعد هذا جاءت آيات في خطاب الرسول بالحكم بين الناس بما أراه الله في كتابه والإشارة إلى واقعة أراد بعضهم أن يحابي الرسول فيها بعض المسلمين على أهل الكتاب، وعقبها هذا المقام من الوعظ والوعد والوعيد ولاسيما وعيد من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ثم مسألة جواز المغفرة لما عدا الشرك يتبعها بيان شيء من ضلال مشركي العرب ثم بيان أن أمر النجاة في الآخرة منوط بالإيمان والعمل لا بالأماني والانتساب إلى دين شريف ونبي مرسل. فكانت أحكام هذه الآيات موعظها في شؤون أهل الكتاب والمشركين والمؤمنين جميعا ومزايا الإسلام ولذلك ختمها ببيان حسن ملة إبراهيم الحنيفية وهو المتفق على فضله عند هذا الطوائف كلها. ويمتد هذا السياق إلى آية 125.
تلا ذلك آيات في أحكام النساء واليتامى والمستضعفين من الولدان ونشوز النساء والعدل بينهن، والإصلاح بين الأزواج وتفرقهم، دعمت بآيات في الوصية بالتقوى والتذكير بالله تعالى ووعده ووعيده والأمر بالمبالغة في القيام بالقسط والشهادة بالحق ولو على الأقربين والأغنياء والفقراء من غير محاباة ولا شفقة. وذلك في نحو من عشر آيات.
ثم عاد إلى الكلام في أحوال المنافقين بعد التمهيد له بالأمر بالإيمان وذكر أركانه ووعيد الذين يتقلبون ويتذبذبون فيه، فذكر موالاتهم للكافرين وسببها ومنشأها من نفوسهم ومخادعتهم لله ووعيدهم وجزاءهم وجزاء من تاب وأصلح منهم وجزاء المؤمنين الصادقين. وقد انتهى ذلك بآية 146وهي آخر الجزء الخامس.
ثم انتقل منه إلى أحوال أهل الكتاب في الإيمان والكفر، عودا على بدء، فافتتح بحكم الجهر بالسوء من القول، وكون الأصل فيه القبح والذم، وحسن مقابلِهِ وهو إبداء الخير في القول والعمل.
وبعد هذا ذكر الذين يفرقون بين الله ورسله بدعوى الإيمان ببعض والكفر ببعض، وبيان عراقة هذا في الكفر، وما يقابله من الإيمان بالجميع، وقفى على ذلك ببيان مشاغبة اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحجته تعالى عليهم بمعاندة موسى وعبادة العجل ونقض ميثاق الله وقتل الأنبياء وإيذاء المسيح وأمه والافتخار بدعوى قتله. وختم ذلك ببيان حال الراسخين في العلم منهم والمؤمنين وذلك في نصف حزب ينتهي بآية 161.
بعد هذا أقام الله حجته على صحة نبوة خاتم رسله بكون وحيه إليه كوحيه إلى من قبله منهم، وكونه بعث الرسل إلى كل أمم، أي فلم يجعله خاصا ببني إسرائيل، وكونه تعالى يشهد بما أوحاه إلى رسوله إذ جعله مقرونا بالعلم الأعلى، منزلا على الأمي الذي لم يتعلم شيئا، وختم هذا ببيان حال من يكفر به وغايته التي يؤول إليها، ودعوة الناس كافة إلى الإيمان به. فتم هذا السياق ببضع آيات.
ثم انتقل الكلام إلى إقامة الحجة على النصارى وإبطال عقيدة التثليث وإثبات الوحدانية وبيان ما هو المسيح، وختمها بالوعد والوعيد وبيان أن محمدا رسوله تعالى برهان، وكتابه نور، ودعوة الناس كافة إلى الاهتداء بهما، ووعد من اعتصم بهذا الكتاب بالرحمة والفضل الإلهيين، وهداية الصراط المستقيم الذي يصل سالكه إلى سعادة الدارين.
وهذا هو ختم هذه السورة الحكيمة التي بين الله فيها أصول الحكومة الإسلامية وأهم فرائضها وأحكامها وناهيك بأحكام النساء والأهل والمواريث والنكاح وحقوق الزوجية والإيمان والشرك والتوبة والقتال، وشؤون المنافقين وأهل الكتاب ودحض شبهاتهم، فهي أعظم السور الطوال فوائد وأحكاما وحججا وأما الآية الأخيرة منها فهي ذيل للسورة في فتوى متممة لأحكام الفرائض التي في أوائلها وقد بينا غير مرة الحكمة في أسلوب المزج في القرآن. وأما فائدة الأحكام أو المسائل التي تجعل ذيلا أو محلقا لكتاب أو قانون فهي أن الذهن يتنبه إليها فضل تنبه فلا يغفل عنها كما يغفل عما يكون مندمجا في أثناء أحكام أو مسائل كثيرة من ذلك النوع. فكان جعل هذه الآية مفردة على غير فواصل السورة يراد به توجيه النفوس إليها، لئلا تغفل عنها.