وهنا يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد . إنما هو الإسلام والإحسان ، لا الاسم والعنوان :
( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فله أجره عند ربه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
ومن قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) . . فقال : ( بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
إنها قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة . طرفيها المتقابلين : ( من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) . . فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة ، في معزل عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة الخطيئة .
و ( من أسلم وجهه لله وهو محسن ) . . فأخلص ذاته كلها لله ، ووجه مشاعره كلها إليه ، وخلص لله في مقابل خلوص الآخر للخطيئة . . ( من أسلم وجهه لله ) . . هنا تبرز سمة الإسلام الأولى : إسلام الوجه - والوجه رمز على الكل - ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم . الاستسلام المعنوي والتسليم العملي . ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام : ( وهو محسن ) . . فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك ، بين العقيدة والعمل ، بين الإيمان القلبي والإحسان العملي . . بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها ؛ وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها ؛ وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله :
فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .
الأجر المضمون لا يضيع عند ربهم . . والأمن الموفور لا يساوره خوف ، والسرور الفائض لا يمسه حزن . . وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعا . فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة !
ثم قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } الآية [ آل عمران : 20 ] .
وقال أبو العالية والربيع : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول : من أخلص لله .
وقال سعيد بن جبير : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص ، { وَجْهَهُ } قال : دينه ، { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم . فإن للعمل{[2532]} المتقبل شرطين ، أحدهما : أن يكون خالصًا لله وحده والآخر : أن يكون صوابًا موافقا للشريعة . فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . رواه مسلم من حديث عائشة ، عنه ، عليه السلام .
فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [ محمد ]{[2533]} صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم ، قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39 ] .
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي .
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون : 4 - 7 ] ، ولهذا قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] . وقال في هذه الآية الكريمة : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
وقوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ف { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير : ف { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني : في الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
[ يعني : لا يحزنون ]{[2534]} للموت .
{ بلى } إبطال لدعواهما . و ( بلي ) كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى } [ القيامة : 3 ، 4 ] ، وقول أبي حية النميري :
يخبرك الواشون أن لن أحبكم *** بلى وستور الله ذات المحارم
وقوله : { من أسلم } جملة مستأنفة عن ( بلى ) لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله : { فله أجره } هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن ( من ) شرطية لا محالة . ومن قدر هنا فعلاً بعد { بلى } أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا .
وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى : { فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني } [ آل عمران : 20 ] . والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفرى :
*إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري{[157]} *
ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] . وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى :
وأول الحكم على وجهه *** ليس قضاء بالهوى الجائر
ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون { أسلم } بمعنى أخلص مشتقاً من السلامة أي جعله سالماً ومنه { ورجلاً سلماً لرجل } [ الزمر : 29 ] .
وقوله : { وهو محسن } جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير .
وجمع الضمير في قوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } اعتباراً بعموم ( من ) كما أفرد الضمير في قوله : { وجهه لله وهو محسن } اعتباراً بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.