18- وتظنهم - أيها الناظر - منتبهين ، وفي الحقيقة هم نيام ، ونقلبهم في نومهم يمينا مرة ويسارا مرة لنحفظ أجسامهم من تأثير الأرض ، وكلبهم - الذي صاحبهم - مادا ذراعيه بالفناء وهو نائم أيضاً في شكل اليقظان ، لو اطلعت - أيها المخاطب - عليهم وهم على تلك الحال لفررت منهم هاربا ، ولملئ قلبك منهم فزعا لهيبتهم في منامهم ، فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ، كيلا يدنو منهم أحد ، ولا تمسهم يد حتى تنتهي المدة .
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود . وكلبهم - على عادة الكلاب - باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياما كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يبعث بهم عابث ، حتى يحين الوقت المعلوم .
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق{[18039]} أعينهم ؛ لئلا{[18040]} يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينًا ويفتح عينًا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر{[18041]}
يَنَامُ بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي *** بأخْرَى الرزايا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ
وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين . قال ابن عباس : لو لم يقلبوا{[18042]} لأكلتهم الأرض .
وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال ابن عباس ، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير{[18043]} الوصيد : الفناء .
وقال ابن عباس : بالباب . وقيل : بالصعيد ، وهو التراب . والصحيح أنه بالفناء ، وهو الباب ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } [ الهمزة : 8 ] أي : مطبقة مغلقة . ويقال : " وَصِيد " و " أصيد " .
ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب .
قال ابن جريج{[18044]} يحرس عليهم الباب . وهذا من سجيته وطبيعته ، حيث يربض{[18045]} ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب ؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب - كما ورد في الصحيح{[18046]} - ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر ، كما ورد به الحديث الحسن{[18047]} وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال . وهذا فائدة صحبة الأخيار ؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .
وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه . وقيل : كان كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " همام بن الوليد الدمشقي " : حدثنا صَدَقَة بن عمر الغَسَّاني ، حدثنا عباد المِنْقَري ، سمعت الحسن البصري ، رحمه الله ، يقول : كان اسم كبش إبراهيم : جرير واسم هدهد سليمان : عَنْقَز ، واسم كلب أصحاب الكهف : قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه : بهموت . وهبط آدم ، عليه السلام ، بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصبهان{[18048]}
وقد تقدم{[18049]} عن شعيب الجبائي أنه سماه : حمران .
واختلفوا في لونه{[18050]} على أقوال لا حاصل لها ، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ، ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب .
وقوله تعالى : { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } أي : أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم{[18051]} يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له في ذلك من الحجة والحكمة{[18052]} البالغة ، والرحمة الواسعة .
وقوله { وتحسبهم } الآية ، صفة حال قد نقضت وجاءت أفعالها مستقبلة تجوزاً واتساعاً و { أيقاظاً } جمع يقظ كعضد وأعضاد ، وهو المنتبه قال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ، فلذلك كان الرائي يحسبهم { أيقاظاً } .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، ورب نائم على أحوال لم يتغير عن حالة اليقظة فيحسبه الرائي يقظاناً وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، وقرأ الجمهور «ونقلبهم » بنون العظمة ، وقرأ الحسن «وَتَقلُّبُهم » بالتاء المفتوحة وضم اللام والباء ، وهو مصدر مرتفع بالابتداء ، قاله أبو حاتم ، وحكى ابن جني القراءة عن الحسن بفتح التاء وضم اللام وفتح الباء ، وقال هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال وترى أو تشاهد تقلبهم{[8]} .
وأبو حاتم أثبت ، ورأت فرقة أن التقلب هو الذي من أجله كان الرائي يحسبهم { أيقاظاً } وهذا وإن كان التقلب لمن صادف رؤيته دليلاً على ذلك ، فإن ألفاظ الآية لم تسقه إلا خبراً مستأنفاً ، وقال أبو عياض : كان هذا التقليب مرتين في السنة ، وقالت فرقة كل سبع سنين مرة ، وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا ، وذكر بعض المفسرين أن تقلبهم إنما كان حفظاً من الأرض ، وروي عن ابن عباس أنه قال لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض .
قال القاضي أبو محمد : وآية الله في نومهم هذه المدة الطويلة وحياتهم دون تغد أذهب في الغرابة من حفظهم مع مس الشمس ولزوم الأرض ولكنها روايات تجلب . وتتأمل بعد{[7767]} ، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته ، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم لا ينتبهون كما يعتري كثيراً من النوام ، لأن القوم لم يكونوا موتى . وقوله { وكلبهم } أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة كان لصيد أحدهم فيما روي ، وقيل كان لراع مروا عليه فصحبهم وتبعه الكلب .
قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله ، وقيل كان أنمر{[7768]} ، وقيل أحمر ، وقالت فرقة كان رجلاً طباخاً لهم حكاه الطبري ولم يسم قائله ، وقالت فرقة : كان أحدهم وكان قعد عند باب الغار طليعة لهم .
قال القاضي أبو محمد : فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس ، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً لأنه منها كالكلب من الإنسان ، ويقال له كلب الحيار : أما أن هذا القول يضعفه بسط الذراعين ، فإنهما في العرف من صفة الكلب حقيقة ومنه قول النبي عليه السلام : «ولا يبتسط أحدكم ذراعيه في السجود ابتساط الكلب »{[7769]} ، وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرىء «وكالبهم باسط ذراعيه » فيحتمل أن يريد ب «الكالب » هذا الرجل ، على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة{[7770]} ، المستخفي بنفسه ، ويحتمل أن يريد ب «الكالب » الكلب ، وقوله { باسط ذراعيه } أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنها حكاية حال ، ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب ، و «الوصيد » العتبة لباب الكهف أو موضعها حيث ليست . وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير «الوصيد » الفناء ، وقال ابن عباس أيضاً «الوصيد » الباب ، وقال ابن جبير أيضاً «الوصيد » التراب ، والقول الأول أصح ، والباب الموصد هو المغلق ، أي قد وقف على وصيده ، ثم ذكر الله عز وجل ما حفهم من الرعب واكتنفهم من الهيبة ، وقرأ «لوِ اطلعت » بكسر الواو جمهور القراء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «لوُ اطلعت » بضمها . وقد ذكر ذلك عن نافع وشيبة وأبي جعفر ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عباس وأهل مكة والمدينة «لملّئت » بشد اللام على تضعيف المبالغة أي ملئت ثم ملئت ثم ملئت ، وقرأ الباقون «لمُلِئت » بتخفيف اللام والتخفيف أشهر في اللغة ، وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي : [ الطويل ]
وإذ فتك النعمان بالناس محرماً . . . فملىء من كعب بن عوف سلاسله{[7771]}
وقالت فرقة إنما حفهم هذا الرعب لطول شعورهم وأظفارهم ، ذكره المهدوي والزجاج ، وهذا قول بعيد ، ولو كانت حالهم هكذا ، لم يقولوا { لبثنا يوماً أبو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] وإنما الصحيح في أمرهم ، أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها ، لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ، ولا تغيرت صفة ، ولا أنكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم ، ولروي ذلك ، وقرأ الجمهور «رعْباً » بسكون العين ، وقرأ «رعُباً » بضمها أبو جعفر وعيسى ، قال أبو حاتم : هما لغتان .
{ وتحسبهم أيقاظا وهو رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال }
عطف على بقية القصة ، وما بينهما اعتراض . والخطاب فيه كالخطاب في قوله : { وترى الشمس } [ الكهف : 17 ] . وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم ، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس .
ومعنى حسبانهم أيقاضاً : أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم ، فقيل : كانت أعينهم مفتوحة .
وصيغ فعل { تحسبهم } مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة .
والأيقاظ : جمع يَقِظ ، بوزن كتف ، وبضم القاف بوزن عَضُد .
والتقليب : تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه ، قال تعالى : { فأصبح يقلب كفيه } [ الكهف : 42 ] .
و{ ذات اليمين وذات الشمال } أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم . والمعنى : أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس ، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة .
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي . ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية .
{ وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد }
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم ، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب .
والوصيد : مدخل الكهف ، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق .
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم . وقد يقال : إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه .
{ لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }
الخطاب لغير معين ، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله ، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية .
والمعنى : لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق ، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابىء لقطاع الطريق ، كما قال تأبط شراً :
أقولُ للَحْيَانٍ وقد صفّرتْ لهم *** وطابي يوَمي ضَيّقُ الجُحْر مُعوِر
ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم ، كقوله تعالى : { نكرهم وأوجس منهم خيفة } [ هود : 70 ] . وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس ، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب ، على أنه قد سبق { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } .
والاطلاع : الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع ، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا ، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء ، وضمن معنى الإشراف فعدي ب ( على ) ، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد ، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى : { أطلع الغيب } في سورة مريم ( 78 ) ، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء . و« في الكشاف » عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح .
وانتصب { فراراً } على المفعول المطلق المبين لنوع { وليت .
و{ مُلّئتَ } مبني للمجهول ، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرىء بهما .
والمَلْء : كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف ، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف ، ومُثل عقل الإنسان بالظرف ، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف ، فكان في قوله : { ملّئت } استعارة تمثيلية ، وعكسه قوله تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } [ القصص : 10 ] .
وانتصب { رعباً } على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يَمْلأ ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلاً تمييزاً . وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال ، وليس تمييزا مُحولاً عن المفعول كما قد يلوح بادىء الرأي .
والرعب تقدم في قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } في سورة آل عمران ( 151 ) .
وقرأ نافع وابن كثير { ولَمُلِّئْتَ } بتشديد اللام على المبالغة في الملء ، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل .
وقرأ الجمهور { رعباً } بسكون العين . وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتحسبهم أيقاظا}، حين يقلبون، وأعينهم مفتحة...
{ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}، على جنوبهم، وهم رقود لا يشعرون،
{وكلبهم}... {باسط ذراعيه بالوصيد}، يعني: الفضاء الذي على باب الكهف... يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لو اطلعت عليهم}، حين نقلبهم،
{لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وتحسب يا محمد هؤلاء الفتية الذين قصصنا عليك قصتهم، لو رأيتهم في حال ضربنا على آذانهم في كهفهم الذي أووا إليه أيقاظا. والأيقاظ: جمع يَقِظ...
وقوله:"وَهُمْ رُقُودٌ" يقول: وهم نيام. والرقود: جمع راقد...
وقوله: "وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينَ وَذَاتَ الشّمالِ "يقول جلّ ثناؤه: ونقلّب هؤلاء الفتية في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن، ومرّة للجنب الأيسر... عن ابن عباس "وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمالِ" قال: لو أنهم لا يقلّبون لأكلتهم الأرض.
وقوله: "وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ"...
وأما الوصيد، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
وقال آخرون: الوَصِيد: الصعيد... وقال آخرون: الوصيد الباب...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الوصيد: الباب، أو فناء الباب حيث يغلق الباب، وذلك أن الباب يُوصَد، وإيصاده: إطباقه وإغلاقه من قول الله عزّ وجلّ: "إنّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ"... فكان معنى الكلام: وكلبهم باسط ذَراعيه بفناء كهفهم عند الباب، يحفظ عليهم بابه.
وقوله: "لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا" يقول: لو اطلعت عليهم في رقدتهم التي رقدوها في كهفهم، لأدبرت عنهم هاربا منهم فارّا، "وَلُمِلئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا" يقول: ولملئت نفسُك من اطلاعك عليهم فَزَعا، لما كان الله ألبسهم من الهيبة، كي لا يصل إليهم واصل، ولا تلمِسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه من عباده، ليعلموا أن وعد الله حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال بعض أهل التأويل: إنما كان يقلبهم ذات اليمين والشمال ليدفع عنهم أذى الأرض وضررها لئلا يفسدوا، ويتلاشوا، وإن كان الله قادرا أن يدفع عنهم الأذى وضرر الأرض لا بتقليب من جانب إلى جانب، وإن كان مما يفعل من لا يملك دفع الأذى بما ذكرنا، فأما من كان قادرا بذاته مستغنيا عن الأسباب التي بها يدفع الضرر فغير محتمل. وقوله على التعليم منه إياهم: أن كيف يُتّقَى الأذى، وكيف يُدفع الضرر. فإذا لم يكن بمشهد من الخلق فلا معنى له.
وقال بعضهم: قوله: {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} لأنهم كانوا في مكان الريبة واللصوص مما لا يأوي إليه إلا هارب من ريبة وشر أو قاصد ريبة وطالب عثرة ومكابرة. لم يكونوا في مكان يسلم فيه ويرقد، ولا يختار للنوم مثله. فقال: {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} لما كانوا في مكان لا ينام فيه للخوف، كأنهم أيقاظ، وهم رقود، والله أعلم. ولكن لا ندري لأي معنى ذكر أنه يحسب الناظر إليهم كأنهم أيقاظ، وهم رقود. وإذ لم يبين الله ذلك فلا يفسر.
{ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} هو ما ذكرنا (أن النوم) قد يتقلبون في نومهم من جانب إلى جانب، وذكر التقليب، وجائز أن يكون لما ذكر بعضهم من دفع أذى الأرض وضررها، أو ذكر فعله لما له في تقلبهم صنع وفعل، والله أعلم...
{وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} قال بعضهم: الوصيد هو فناء الباب. وقال بعضهم: الوصيد هو عتَبَةُ الباب. قال القتبي: الوصيد الفِنَاءُ، ويقال عتبة الباب، وهذا أعجب لأنهم يقولون: أوصد بابك أي أغلقه (ومنه قوله): {إنها عليهم مؤصدة} (الهمزة: 8) أي مُطَبَقَة. وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إذا أغلقته. فإذا كان الوصيد هو عتبة الباب ففيه أن الكلب كان داخل باب الغار، وإن كان الفناء ففيه أنه كان خارج باب الغار وفيه أيضا (أنه) أبقى الكلب ثلاث مائة سنة على ما أبقاهم، وإن لم يكن من جوهرهم، بلطفه.
{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} قال بعض أهل التأويل: وذلك لأن شعورهم قد طالت، وأظفارهم قد امتدت، وعظمت. فكانوا بحال يُرغَب عنهم ويهاب. لكن هذا لا يحتمل لأنهم {قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} (الكهف: 19) فلو كانوا على الحال التي ذكروا من تطاول الشعور وامتداد الأظفار وتغير أحوالهم لم يكونوا ليقولوا: {لبثنا يوما أو بعض يوم} إذ لو نظروا في أنفسهم من تغير الأحوال لعرفوا أنهم لم يلبثوا ما ذكروا من الوقت. دل ذلك أن ذلك للخوف والهيبة لا لذلك. وقال بعضهم: لأنهم كانوا في مكان الريبة، في ما لا يؤوى إلى مثله إلا لخوف أو ريبة أو طلب أو ريبة، لا يأويه إلا هذان هارب من شر أو طالب شر إلى آخر ما ذكرنا؛ إذ من أقام في مهاب مخوف يهاب منه ويخاف. أو أن يكونوا بحيث يهابون، ويخاف منهم، لئلا يدنو منهم أحد، ولا يقرب، فلا يوقظهم أحد، ليبقوا إلى المدة التي أراد الله أن يبقوا فيها. وكذلك يحتمل هذا المعنى في تقلب اليمين والشمال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نبه سبحانه هذا التنبيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتثبيتاً أن يبخع نفسه، عطف على ما مضى بقية أمرهم فقال: {وتحسبهم أيقاظاً} لانفتاح أعينهم للهواء ليكون أبقى لها، ولكثرة حركاتهم {وهم رقود ونقلبهم} بعظمتنا في حال نومهم تقليباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم {ذات} أي في الجهة التي هي صاحبة {اليمين} منهم {وذات الشمال} لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث {وكلبهم باسط} وأعمل اسم الفاعل هذا، لأنه ليس بمعنى الماضي بل هو حكاية حال ماضية فقال: {ذراعيه بالوصيد} أي بباب الكهف وفنائه كما هي عادة الكلاب، وذكر هذا الكلب على طول الآباد بجميل هذا الرقاد من بركة صحبة الأمجاد.
ولما كان هذا مشوقاً إلى رؤيتهم، وصل به ما يكف عنه بقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم} وهم على تلك الحال {لوليت منهم فراراً} أي حال وقوع بصرك عليهم {ولملئت} في أقل وقت بأيسر أمر {منهم رعباً} لما ألبسهم الله من الهيبة، وجعل لهم من الجلالة، وتدبيراً منه لما أراد منهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وتحسبهم أيقاظا وهو رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}
عطف على بقية القصة، وما بينهما اعتراض. والخطاب فيه كالخطاب في قوله: {وترى الشمس} [الكهف: 17]. وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس.
ومعنى حسبانهم أيقاضاً: أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم، فقيل: كانت أعينهم مفتوحة.
وصيغ فعل {تحسبهم} مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة...
والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه، قال تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} [الكهف: 42].
و {ذات اليمين وذات الشمال} أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم. والمعنى: أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي. ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية.
{وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد}
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب.
والوصيد: مدخل الكهف، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم. وقد يقال: إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه.
{لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}
الخطاب لغير معين، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية.
والمعنى: لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق...
وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب، على أنه قد سبق {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود}.
والاطلاع: الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء، وضمن معنى الإشراف فعدي ب (على)، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى: {أطلع الغيب} في سورة مريم (78)، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء...
و {مُلّئتَ} مبني للمجهول، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرئ بهما.
والمَلْء: كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف، ومُثل عقل الإنسان بالظرف، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف، فكان في قوله: {ملّئت} استعارة تمثيلية، وعكسه قوله تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} [القصص: 10].