92- ولا تكونوا في الحنث في أيمانكم بعد توكيدها مثل المرأة المجنونة التي تغزل الصوف وتحكم غزله ، ثم تعود فتنقضه وتتركه محلولاً ، متخذين أيمانكم وسيلة للتغرير والخداع لغيركم ، مع أنكم مصرون على الغدر بهم ؛ لأنكم أكثر وأقوى منهم ، أو تنوون الانضمام لأعدائهم الأقوى منهم ، أو لترجون زيادة القوة بالغدر ، وإنما يختبركم اللَّه ، فإن آثرتم الوفاء كان لكم الغنم في الدنيا والآخرة ، وإن اتجهتم إلى الغدر كان الخسران . وليبين لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم عليه ، تختلفون عليه في الدنيا ، ويجازيكم حسب أعمالكم{[118]} .
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا ، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم ، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال ، وتقبيح نكث العهد ، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات :
( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، أن تكون أمة هي أربى من أمة . إنما يبلوكم الله به . وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .
فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب . وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب . وهو المقصود . وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل ، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه !
وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول [ ص ] بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة ، بينما قريش كثرة قوية . فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة . وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى .
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن " مصلحة الدولة " فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول ، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر ، تحقيقا لمصلحة الدولة ! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ، ويجزم بالوفاء بالعهد ، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل . ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى . ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان ، وأكل حقوق الناس ، واستغلال الدول والشعوب . . وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام .
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر ، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة )هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه : ( إنما يبلوكم الله به ) . .
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه : ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة .
وقوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } ، قال عبد الله بن كثير ، والسدّي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .
وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده .
وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .
وقوله : { أَنْكَاثًا } ، يحتمل أن يكون اسم مصدر : نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا . ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ؛ ولهذا قال بعده : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } ، أي : خديعة ومكرًا ، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم . فنهى الله عن ذلك ، لينبه بالأدنى على الأعلى ؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى .
وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " {[16675]} قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عَبْسَة : الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدرًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها " . فرجع معاوية بالجيش ، رضي الله عنه وأرضاه .
قال ابن عباس : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : أكثر .
وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز . فنهوا عن ذلك . وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه .
وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، قال سعيد بن جُبَير : يعني بالكثرة . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد .
{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازى كل عامل بعمله ، من خير وشر .
شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة ، بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكماً ، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام ، بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل ، فحلته بعد إبرامه ، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة ، تسمى ريطة بنت سعد ، كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقيل : كانت امرأة موسوسة تسمى خطية ، تغزل عند الحجر وتفعل ذلك ، وقال مجاهد وقتادة ، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة ، و { أنكاثاً } ، نصب على الحال ، والنكث النقض ، و «القوة » في اللغة واحدة قوى ، الغزل والحبل ، وغير ذلك مما يظفر ، ومنه قول الأغلب الراجز :
حبل عجوز فتلت سبع قوى{[7407]} . . . ويظهر لي أن المراد ب : «القوة » ، في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ، ولو قدرناها واحدة القوى ، لم يكن معها ما ينقض ، { أنكاثاً } ، والعرب تقول : أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه ، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة ، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له ، قال مجاهد : المعنى : من بعد إمرار قوة ، و «الدخل » ، الدغل بعينه ، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيتمكن الحالف من ضره بما يريده ، وقوله : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب ، الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة ، قوية فداخلتها ، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى ، فقال الله تعالى{[7408]} ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة . و «الربا » الزيادة ، ويحتمل أن يكون القول معناه : لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم ، أي : أزيد خيراً ، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود ، و { يبلوكم } ، معناه يختبركم ، والضمير في : { به } ، يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به ، ويحتمل أن يعود على الربا ، أي : أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد ، وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها ، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة ، وقوله : { هي أربى } ، موضع { أربى } ، عند البصريين رفع ، وعند الكوفيين نصب ، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين ؛ لأنه لا يكون مع النكرة ، و { أمة } نكرة ، وحجة الكوفيين أن : { أمة } ، وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف ، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص ، وفي هذا نظر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثلا لمن ينقض العهد، فقال سبحانه: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها}، يعني: امرأة من قريش حمقاء... وكانت إذا غزلت الشعر أو الكتان نقضته، قال الله عز وجل: لا تنقضوا العهود بعد توكيدها، كما نقضت المرأة الحمقاء غزلها،
{من بعد قوة}، من بعد ما أبرمته،
{أنكاثا}، يعني: نقضا، فلا هي تركت الغزل فينتفع به، ولا هي كفت عن العمل، فذلك الذي يعطي العهد، ثم ينقضه، لا هو حين أعطى العهد وفى به، ولا هو ترك العهد فلم يعطه،
{من بعد قوة}، يعني: من بعد جده، ولم يأثم بربه.
ثم قال سبحانه: {تتخذون أيمانكم}، يعني: العهد،
{دخلا بينكم}، يعني: مكرا وخديعة يستحل به نقض العهد،
{أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به}، يعني: إنما يبتليكم الله بالكثرة،
{وليبينن لكم}، يعني: من لا يفي بالعهد، يعني: وليحكمن بينكم،
{يوم القيامة ما كنتم فيه}، من الدين، {تختلفون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره ناهيا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرا بوفاء العهود، وممثلاً ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه، وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها، وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق، {كالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ}، يعني: من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربية يقول: القوّة: ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن. وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة...
وقال آخرون: إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل...
وقوله: أنكاثا، يعني: أنقاضا، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل، فهو أنكاث، واحدها: نِكْث حبلاً كان ذلك أو غزلاً، يقال منه: نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نَكْثا، والحبل منتكِثٌ: إذا انتقضت قُواه. وإنما عُني به في هذا الموضع نكث العهد والعقد. وقوله: {تَتّخِذُونَ أيمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ}، يقول تعالى ذكره: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه "دَخَلاً بَيْنَكُمْ"، يقول: خديعة وغرورا، ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد والنّقلة عنهم إلى غيرهم، من أجل أن غيرهم أكثر عددا منهم. والدّخَل في كلام العرب: كلّ أمر لم يكن صحيحا...
وأما قوله: {أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّة}، ٍ فإن قوله أرَبى: أفعل من الربا، يقال: هذا أربى من هذا وأربأ منه، إذا كان أكثر منه... عن مجاهد، في قوله: {أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ}، قال: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنُهوا عن ذلك...
وقوله: {إنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِه} ِ يقول تعالى ذكره: إنما يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بعهد الله إذا عاهدتم، ليتبين المطيع منكم المنتهي إلى أمره ونهيه من العاصي المخالف أمره ونهيه.
{وَليُبِينَنّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، يقول تعالى ذكره: وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته، "ما كُنْتُمْ فيه تَخْتَلِفُونَ"، والذي كانوا فيه يختلفون في الدنيا أن المؤمن بالله كان يقرّ بوحدانية الله ونبوّة نبيه، ويصدق بما ابتعث به أنبياءه، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم في الدنيا الذي وعد الله تعالى ذكره عباده أن يبينه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
و (الدَّخَل)، ما أدخل في الشيء على فساد، والمعنى: تدخلون الأيمان على فساد للغرور، وفي نيتكم الغدر بمن حلفتم له، لأنكم أكثر عددا منهم أو لأن غيركم أكثر عددا منكم، وقيل والدخل الدغل والخديعة، وإنما قيل الدخل؛ لأنه داخل القلب على ترك الوفاء والظاهر على الوفاء. وقيل: (دخلا)، غلا وغشا... وقوله:"أن تكون أمة هي أربا من أمة"، أي أكثر عددا لطلب العز بهم مع الغدر بالأقل...
وقوله: "إنما يبلوكم الله به "معناه: إنما يختبركم الله بالأمر بالوفاء... ليقع الجزاء بالعمل...
ومعنى:"أن تكون "لأن تكون "أمة "أعز من أمة، وقوم أعلى من قوم، يريد: لا تقطعوا بأيمانكم حقوقا لهؤلاء، فتجعلوها لهؤلاء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ نَقَضَ عهده أفسد بآخِرِ أمرِه أَوَّلَه، وهَدَمَ بِفِعْلِهِ ما أَسَّسَه، وقَلَعَ بيده ما غَرَسَه، وكان كمن نقضت غَزْلَها من بعد قوة أنكاثاً، أي: من بعد ما أبرمت فَتْلَه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الدخل»، الدغل بعينه، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن، فيتمكن الحالف من ضره بما يريده...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والمقصود: النهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم...
والضمير في (به) يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء، أي: أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها، ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها؛ وهو معنى قوله:"إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون"، من البعث وغيره...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، أي: يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم. فنهى الله عن ذلك، لينبه بالأدنى على الأعلى؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمر بالوفاء ونهى عن النقض، شرع في تأكيد وجوب الوفاء وتحريم النقض وتقبيحه تنفيراً منه فقال تعالى: {ولا تكونوا}، أي: في نقضكم لهذا الأمر المعنوي، {كالتي نقضت غزلها}، ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد،... ولما عظم عليهم النقض، وبين أن من أسبابه الزيادة، حذرهم غوائل البطر فقال تعالى: {إنما يبلوكم}، أي: يختبركم {الله}، أي: الذي له الأمر كله، {به}، أي: يعاملكم معاملة المختبر بالأيمان والزيادة، ليظهر للناس تمسككم بالوفاء أو انخلاعكم منه، اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين. "أو غيرهم"، مع قدرته سبحانه على ما يريد، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القوي ويقلل الكثير، {وليبينن لكم}، أي: إذا تجلى لفصل القضاء، {يوم القيامة}، مع هذا كله، {ما كنتم}، أي: بجبلاتكم، {فيه تختلفون}، فاحذروا يوم العرض على ملك الملوك، بحضرة الرؤساء والملوك وجميع المعبودات، والكل بحضرته الشماء داخرون، ولديه صاغرون، ومن نوقش الحساب يهلك...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، أي: لا تنبغي هذه الحالة منكم تعقدون الأيمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص، فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على الآخر أتمها، لا لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه. وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه...
كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس، وتقديما لها على مراد الله منكم، وعلى المروءة الإنسانية، والأخلاق المرضية... وهذا ابتلاء من الله وامتحان، يبتليكم الله به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي من الفاجر الشقي. {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، فيجازي كلا بما عمل، ويخزي الغادر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات... وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها... طلبا للمصلحة مع الأمة الأربى... ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن "مصلحة الدولة "فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقا لمصلحة الدولة! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب.. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام...
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه: (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نُهوا عن أن يكونوا مَضْرِب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تَنقض غزلها بعد شَدّ فتله... وعُبّر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصّلة ولأن مضمون الصّلة، هو الحالة المشبّه بها في هذا التمثيل، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون...
ومعلوم أن الأمّة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمّة المفضولة هي المنفصَل عنها، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عدداً وأموالاً من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفصال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفّار...
وجملة {إنما يبلوكم الله به} مستأنفة استئنافاً بيانياً للتعليل بما يقتضي الحكمة، وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} [سورة الأنعام: 165]...
ثم عطف عليه تأكيدُ أنه سيبيّن لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشّاة بزخارف الشّهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها، فيومئذٍ تعلمون أنّ الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شرّ محض. وأكّد هذا الوعد بمؤكّدين: القسم الذي دلّت عليه اللام ونون التوكيد. ثم يظهر ذلك أيضاً في ترتّب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن هذا النص السامي يدل على ثلاثة أمور:...
الأمر الأول – أن العهد قوة، وأن الوفاء به استمساك بما فيه قوة...
الأمر الثاني – أن العهد إن تم نقضه غشا وخديعة لا يقدم عليه أهل المروءة والأعزاء، وعبث بأيمان الله سبحانه وتعالى...
الأمر الثالث – أن علو الأمم في الوفاء بعهدها لا يصح أن تتخذ النقض أمة لتنمو وتربو فإنها إن ربت ونمت بالإخلاف بالوعد، فهو نمو يحمل في نفسه ما يوجبه انحلاله وذهاب قوته...
وإن الوفاء بالعهد بين الأمم احترام الإنسانية التي يعقدون معهم، فهم يعدونهم أناسي مثلهم يعرفون حقوقهم ويراعون الواجبات نحوهم، والذين ينقضون العهد تسول لهم قوتهم أنه ليس لأحد حقوق قبلهم، ولا يعاملونهم إلا كمن هم دونهم، وقد رأينا ذلك في حكومة عاتية أزالها فساد عهودها، ونراها الآن في وريثة لها تكبر من غير عهد ولا ذمة ولا ضمير ويحسبون الناس قد أباحتهم لهم قوتهم...
وإن الوفاء بالعهد، وهو من مكارم الأخلاق وملاحظة حقوق الإنسان لأخيه، ونقض العهد نقيض ذلك وكثرة الأمم وقتلها وهو من ابتلاء الله تعالى للأمم وللناس... يختبركم الله تعالى بأن تكون أمة كثيرة العدد واسعة الأرض كثيرة المال وأخرى ضعيفة فإن صبرت القوية الرابية واستمسكت بالوفاء زادها الله تعالى، وإن غلب عليها هواها، فاستهانت بالعهد لاستهانتها بمن عقدته معها، فإن مآلها الضعف والخذلان، والله عليم بما يفعلون... هذا عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}... ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ولا الإيمان والكفر، ولا الوفاء بالعهد ونقضه...