أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع ، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك . ثم يرسم مشهدا للقوم في زحمة الهول . . مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء ، ولا يلتفتون إلى شيء . رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكا . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم . وقلوبهم من الفزع خاوية خالية لا تضم شيئا يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه ، فهي هواء خواء . .
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه . حيث يقفون هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب . الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلا آخذا بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب :
( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم ، وأفئدتهم هواء ) . .
فالسرعة المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة ، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك . . كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار .
ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر فقال : { مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين ، كما قال تعالى : { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ] {[15987]} } [ القمر : 8 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } إلى قوله : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } [ طه : 198 - 111 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] .
وقوله : { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد : رافعي رءوسهم .
{ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي : [ بل ]{[15988]} أبصارهم طائرة شاخصة ، يديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة{[15989]} لما يحل بهم ، عياذًا بالله العظيم من ذلك ؛ ولهذا قال : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } أي : وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة [ الفزع و ]{[15990]} الوجل والخوف . ولهذا قال قتادة وجماعة : إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف . وقال بعضهم : { هَوَاءٌ } خراب لا تعي{[15991]} شيئا .
ولشدة ما أخبر الله تعالى [ به ]{[15992]} عنهم ، قال لرسوله : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ } .
{ مُهطعين } أي مسرعين إلى الداعي ، أو مقبلين بأبصارهم لا يطوفون هيبة وخوفا ، وأصل الكلمة هو الإقبال على الشيء . { مُقنعي رؤوسِهم } رافعيها . { لا يرتدّ إليهم طرفهم } بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف ، أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم . { وأفئدتهم هواء } خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير :
من الظلمان جؤجؤه هواء *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و «المهطع » المسرع في مشيه - قاله ابن جبير وقتادة .
قال القاضي أبو محمد : وذلك بذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه - وهذا هو أرجح الأقوال - وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الكامل ]
بمهطع سرج كأن عنانه . . . في رأس جذع من أوال مشذب{[7093]}
ومن ذلك قول عمران بن حطان : [ البسيط ]
إذا دعانا فأهطعنا لدعوته . . . داع سميع فلونا وساقونا{[7094]}
ومنه قول ابن مفرغ : [ الوافر ]
بدجلة دارهم ولقد أراهم . . . بدجلة مهطعين إلى السماع{[7095]}
ومن ذلك قول الآخر : [ الطويل ]
بمستهطع رسل كأن جديله . . . بقيدوم رعد من صوام ممنع{[7096]}
وقال ابن عباس وأبو الضحى : الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد «المهطع » : الذي لا يرفع رأسه . قال أبو عبيدة : وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعاً الإسراع وإدامة النظر ، و «المقنع » هو الذي يرفع رأسه قدماً بوجهه نحو الشيء ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الشماخ ] [ الوافر ]
يباكرن العضاة بمقنعات . . . نواجذهن كالحدأ الوقيع{[7097]}
يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر .
وقال الحسن في تفسير هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد . وذكر المبرد - فيما حكي عن مكي - أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة .
قال القاضي أبو محمد : والأول أشهر .
وقوله : { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا يطوفون من الحذر والجزع وشدة الحال ، وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه محض ، لأنها ليست بهواء حقيقة ، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة ، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه ، ويحتمل أن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي - حناجرهم - فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
ولا تكن من أخدان كل يراعه . . . هواء كسقب الناب جوفاً مكاسره{[7098]}
ألا أبلغ أبا سفيان عني . . . فأنت مجوف نخب هواء{[7099]}
كأن الرحل منه فوق صعل . . . من الظلمان جوجؤه هواء{[7100]}
الإهطاع : إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل ، وهي هيئة الخائف .
وإقناع الرأس : طأطأته من الذل ، وهو مشتق من قَنَع من باب مَنَع إذا تذلّل . و { مهطعين مقنعي رؤوسهم } حالان .
وجملة { لا يرتد إليهم طرفهم } في موضع الحال أيضاً . والطَرْف : تحرك جفن العين .
ومعنى { لا يرتد إليهم } لا يرْجع إليهم ، أي لا يعود إلى معتاده ، أي لا يستطيعون تحويله . فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم .
وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه بليغ ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول .
والهواء في كلام العرب : الخلاء . وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مهطعين}، يعنى مقبلين إلى النار، ينظرون إليها، ينظرون في غير طرف، {مقنعي}، يعني رافعي {رءوسهم} إليها، {لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}. وذلك أن الكفار إذا عاينوا النار شهقوا شهقة زالت منها قلوبهم عن أماكنها، فتنشب في حلوقهم، فصارت قلوبهم: {هواء} بين الصدور والحناجر، فلا تخرج من أفواههم، ولا ترجع إلى أماكنها، فذلك قوله سبحانه في حم (المؤمن): {إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين}، يعني مكروبين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما قوله:"مُهْطِعِينَ" فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه؛
فقال بعضهم: معناه: مسرعين... عن قتادة: "مُهْطِعِينَ "يقول: منطلقين عامدين إلى الداعي.
وقال آخرون: معنى ذلك: مديمي النظر... عن ابن عباس، قوله: "مُهْطِعِينَ" يعني بالإهطاع: النظر من غير أن يطرف...
وقال آخرون: معنى ذلك: لا يرفع رأسه...
والإهطاع في كلام العرب بمعنى الإسراع أشهر منه بمعنى إدامة النظر...
وقوله: "مُقْنِعِي رُؤوسِهِمْ" يعني رافعي رؤوسهم. وإقناع الرأس: رفعه...
وقوله: "لا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ" يقول: لا ترجع إليهم لشدّة النظر أبصارهم...
وقوله: "وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ": اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: متخرّقة لا تعي من الخير شيئا...
وقال آخرون: إنها لا تستقرّ في مكان تردّد في أجوافهم...
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها خرجت من أماكنها فنَشِبَت بالحلوق...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: أنها خالية ليس فيها شيء من الخير، ولا تعقل شيئا، وذلك أن العرب تسمي كلّ أجوف خاو: هواء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وأفئدتهم هواء} خالية لهول ذلك اليوم، أي خالية عن التدبير، لأن في الشاهد أن من بلي ببلايا وشدائد يتدبر، ويتفكر في دفع ذلك. فيخبر أن أفئدتهم هواء يومئذ أي خالية عن التدبير؛ إذ أفئدتهم، لا تكون معهم لشدة أهواله...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
...حقيقة المعنى من الآية أن القلوب زائلة عن أماكنها، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«المهطع» المسرع في مشيه -قاله ابن جبير وقتادة... وذلك بذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه- وهذا هو أرجح الأقوال -وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه... و «المقنع» هو الذي يرفع رأسه قدماً بوجهه نحو الشيء...
{لا يرتد إليهم طرفهم} أي لا يطوفون من الحذر والجزع وشدة الحال،
{وأفئدتهم هواء} تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، ويحتمل أن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي- حناجرهم -فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب...
... قوله: {مهطعين} وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة:
القول الأول: قال أبو عبيدة هو الإسراع. يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع، وعلى هذا الوجه، فالمعنى: أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين، أي مسرعين نحو ذلك البلاء.
القول الثاني: في الإهطاع قال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع.
والقول الرابع: قال الليث: يقال للرجل إذا قر وذل: أهطع.
قوله: {مقنعي رؤوسهم} والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع، فقوله: {مقنعي رؤوسهم} أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.
قوله: {لا يرتد إليهم طرفهم} والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص، فقوله: {تشخص فيه الأبصار} لا يفيد كون هذا الشخوص دائما وقوله: {لا يرتد إليهم طرفهم} يفيد دوام هذا الشخوص، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم.
قوله: {وأفئدتهم هواء} الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفا فقيل: قلب فلان هواء إذا كان خاليا لا قوة فيه، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة، ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور، لكثرة ما فيه من الحزن...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وأفئدتهم هواء} خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإهطاع: إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف. وإقناع الرأس: طأطأته من الذل، وهو مشتق من قَنَع من باب مَنَع إذا تذلّل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{مهطعين}، ومعناها مسرعين فإنهم كانوا في الدنيا يسيرون متئدين مالكي أنفسهم مسيطرين على قواهم، وكما قال في آية أخرى في وصف حالهم يوم القيامة: {مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسير} [القمر 8]، والإهطاع إسراع في ذل وتكسر وخوف وهلع، فبعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحا كأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون السماء طولا يسيرون أذلاء خالفين لأول داع، خائفين من أن يكون وراء الدعوة أمر أشد هولا...
وخلاصة هذه المعاني أنهم يكشفون ذلهم وحاجتهم رافعين رءوسهم بالذل والهوان، لا يستتر من أمرهم شيء، فلا يبدون ما يخفون، ويظهرون ما لا يسرون...
بقوله تعالى: {لا يرتد إليهم طرفهم}، والمعنى أن أنظارهم قد استغرقتها الأهوال التي تراها فهي فزعة هلعة قد سمرت أعينهم فيما ترى من عذاب هو عذاب الهول الأكبر، فلا ترجع إليهم، أي لا تعود إلى سيطرتهم فترى ما يجب أن تراه وتمتنع عن رؤية ما لا يجب أن تراه، فهي قد ملكتها تلك المرئية المفزعة ولم يعد له عليها من سلطان...
المُهطع هو من يظهر من فرط تسرّعه وكأن رقبته قد طالت، لأن المُهطع هو من فيه طول، وكأن الجزاء بالعذاب يجذب المجزيّ ليقربه، فيُدفع في شدة وجفوة إلى العذاب، يقول الحق سبحانه: {يُدعُّون إلى نار جهنم دعّاً} (الطور 13). وكأن هناك من يدفعهم دفعا إلى مصيرهم المؤلم... ولا يستطيع الواحد منهم أن تجفل جفونه، وكأنها مفتوحة رغما عنه، وفؤاده هواء بمعنى: أن لا شيء قادر على أن يدخله. ونحن نلحظ ذلك حين نضع زجاجة فارغة في قلب الماء، فتخرج فقاقيع الهواء مقابل دخول الماء من فوهتها. ونعلم أن قلب المؤمن يكون ممتلئا بالإيمان؛ أما الكافر المُلحد فهو في مثل تلك اللحظة يستعرض تاريخه مع الله ومع الدين، فلا يجد فيها شيئا يُطمئِن، وهكذا يكتشف أن فؤاده خالٍ فارغ؛ لا يطمئن به إلى ما يُواجه به لحظة الحساب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنها الحقيقة الهائلة المرعبة التي لا بد من أن يعيشها كل الناس في الدنيا ليواجهوا الموقف عبرها في الآخرة، ولهذا كان من الضروري للأنبياء وللرسل وللمرشدين من بعدهم أن يقوموا بعملية توعيةٍ وإبلاغٍ وانذارٍ للناس...