المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ} (43)

و «المهطع » المسرع في مشيه - قاله ابن جبير وقتادة .

قال القاضي أبو محمد : وذلك بذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه - وهذا هو أرجح الأقوال - وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الكامل ]

بمهطع سرج كأن عنانه . . . في رأس جذع من أوال مشذب{[7093]}

ومن ذلك قول عمران بن حطان : [ البسيط ]

إذا دعانا فأهطعنا لدعوته . . . داع سميع فلونا وساقونا{[7094]}

ومنه قول ابن مفرغ : [ الوافر ]

بدجلة دارهم ولقد أراهم . . . بدجلة مهطعين إلى السماع{[7095]}

ومن ذلك قول الآخر : [ الطويل ]

بمستهطع رسل كأن جديله . . . بقيدوم رعد من صوام ممنع{[7096]}

وقال ابن عباس وأبو الضحى : الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد «المهطع » : الذي لا يرفع رأسه . قال أبو عبيدة : وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعاً الإسراع وإدامة النظر ، و «المقنع » هو الذي يرفع رأسه قدماً بوجهه نحو الشيء ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الشماخ ] [ الوافر ]

يباكرن العضاة بمقنعات . . . نواجذهن كالحدأ الوقيع{[7097]}

يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر .

وقال الحسن في تفسير هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد . وذكر المبرد - فيما حكي عن مكي - أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة .

قال القاضي أبو محمد : والأول أشهر .

وقوله : { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا يطوفون من الحذر والجزع وشدة الحال ، وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه محض ، لأنها ليست بهواء حقيقة ، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة ، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه ، ويحتمل أن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي - حناجرهم - فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب .

قال القاضي أبو محمد : وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

ولا تكن من أخدان كل يراعه . . . هواء كسقب الناب جوفاً مكاسره{[7098]}

ومن ذلك قول حسان : [ الوافر ]

ألا أبلغ أبا سفيان عني . . . فأنت مجوف نخب هواء{[7099]}

ومن ذلك قول زهير : [ الوافر ]

كأن الرحل منه فوق صعل . . . من الظلمان جوجؤه هواء{[7100]}

فالمعنى : أنه في غاية الخفة في إجفاله .


[7093]:البيت في (اللسان ـ أول)، ونسبه ابن بري فيه لأنيف بن جبلة، وروايته فيه: أما إذا استقبلته فكأنه للعين جدع من أوال مشذب وفي معجم ما استعجم للبكري: أول: قرية بالبحرين، وقيل: جزيرة، فإن كانت قرية فهي من قرى السيف، ويشهد لذلك قول ابن مقبل: "وكأنها سفن بسيف أوال". و المهطع: الذي يسرع في مشيته مع خوف، والسرح: السريعة، قال في اللسان: "خيل سرح في سيرها، أي سريعة"، والجذع: الساق من الشجرة ونحوه من الأغصان المتينة، والمشذب: الذي هذب وأزيل عنه قشره.
[7094]:رواه أبو حيان في "البحر": فلبونا، ولف معناها: جمع، أما لبه فمعناها: ضرب لبته، والإهطاع هو الإسراع في خضوع، وسميع معناها: مسمع.
[7095]:البيت في "اللسان" غير منسوب، أنشده الليث للتدليل على أن قوله تعالى {مهطعين إلى الداع} يحتمل الوجهين اللذين ذكرهما ابن عطية نقلا عن أبي عبيدة، و الرواية فيه: "بدجله أهلها" بدلا من "دارهم".
[7096]:أورده صاحب (اللسان ـ قدم)، وأورده الزمخشري في (أساس البلاغة ـ هطع)، و الرواية فيه: "من رضام ممتع" بالتاء، وقال: إنه في صفة ثور، والمستهطعهو المسرع، ورسل: سهل فيه لين، والجديل: حبل مجدول أي مفتول من أدم أو شعر، يكون في عنق البعير أو الناقة، وجمعه جدل، والرعن: أنف الجبل، وقيدوم كل شيء: صدره ومقدمه، وقيدوم الجبل: أنف يتقدم منه، والقيدوم الرعن: هو الأنف المندفع في ارتفاعه، وصوام (كسحاب): اسم جبل، قال ذلك صاحب اللسان، والبكري، والممنع بالنون: المرتفع الصعب الذي يمتنع على الناس فلا يسطيعون الصعود والارتقاء فيه. وقد أورد أبو عبيدة البيت في "مجاز القرآن" ، وقال: "صؤام: بضم الصاد وهمز الواو"، وفسر الرسل بأنه الذي لا يكلفك شيئا.
[7097]:هذا البيت للشماخ بن ضرار، والرواية في الديوان "يبادرن" بدلا من "يباكرن"، والمعنى واحد، وهو الإسراع، والعضاه: جمع عضاهة وهي أعظم الشجر، والمقنعات: جمع مقنع وهو الذي يرفع رأسه نحو الشيء، يصف الإبل وهي تسارع إلى أعلى الشجر الكبير فترفع رؤوسها لتأكل منه، والنواجذ: أقصى الأضراس، والحدأ: جمع حدأة، وهي فأس ذات رأسين، والوقيع: الذي حدد بالميقعة وهي المطرقة، يعني: طرقت حتى أصبحت حادة قاطعة، يشبه أضراس الإبل بالفؤوس الحادة التي طرقت بالمطارق حتى أصبحت شديدة القطع. وقد استشهد به أبو عبيدة في "مجاز القرآن" في نفس الموضع.
[7098]:نسبه في (اللسان ـ يرع) إلى كعب الأمثال، والأخذان: جمع خذن وهو الصديق، واليراعة: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب، فهو مثل القصب الأجوف، والهواء: الجبان الخفيف الفؤاد، أو الذي انتزع فؤاده، والبان: شجر من أشجار البادية، يطول ويرتفع في اعتدل، وبه يشبه الشعراء قوام الحسناء، وسقب البان: عمود الخيمة فإذا صنع من شجر البان كان ضعيفا لا يحتمل لقلة صلابته، وجوف: جمع أجوف، و المكاسر: مواضع الكسر، يعني إذا كسر بان أنه إذا كسر بان أنه أجوف ضعيف. ينهى عن صداقة الأخذان الجبناء الذين لا يعتمد عليهم، وتظهر حقيقتهم الضعيفة عند الاختيار.
[7099]:أبو سفيان هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، و كان حسان يرد عليه. و الموجوف: الخالي الجوف، وهذا دليل الجبن والضعف مع التظاهر بالشجاعة، والنخب والهواء لهما نفس المعنى، و حسان هنا يصف أبا سفيان بالجبن والضعف، وأن هذه هي حقيقته.
[7100]:يصف زهير في هذا البيت ناقته، والرحل: ما يوضع على ظهر البعير للركوب عليه، وكذلك هو كل شيء يوضع على ظهر البعير من وعاء للمتاع وغيره، والصعل: الصغير الرأس، ويريد به هنا ذكر النعام (الظليم) لأنه صغير الرأس ، وجؤجؤه: صدره، وهواء: خال لا قلب فيه، وهو يريد أن يقول: إن الظليم ليس له عقل فهو كالمجنون.