( مالك يوم الدين ) . . وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها كلية الاعتقاد بالآخرة . . والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة . ويوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة . . وكثيرا ما اعتقد الناس بألوهية الله ، وخلقه للكون أول مرة ؛ ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء . . والقرآن يقول عن بعض هؤلاء : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : الله ) . . ثم يحكي عنهم في موضع آخر : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون : هذا شيء عجيب . أئذا متنا وكنا ترابا ؟ ذلك رجع بعيد !
والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض ؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض . وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات . ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود ، وفي مجال الأرض المحصور . وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله ، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء ، في طمأنينة لله ، وفي ثقة بالخير ، وفي إصرار على الحق ، وفي سعة وسماحة ويقين . . ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب ، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان . بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية . مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده ، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال .
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر . وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير . وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها ، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها . .
وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل . فهما صنفان مختلفان من الخلق . وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء . . وهذا هو مفرق الطريق . .
قرأ بعض القراء : { مَلِك يَوْمِ الدِّينِ } وقرأ آخرون : { مَالِكِ }{[917]} . وكلاهما صحيح متواتر في السبع .
[ ويقال : مليك أيضًا ، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ : " ملكي يوم الدين " وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى ، وكلاهما صحيحة حسنة ، ورجح الزمخشري ملك ؛ لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } وقوله : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ } وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ " مَلَكَ يومَ الدين " على أنه فعل وفاعل ومفعول ، وهذا غريب شاذ جدا ]{[918]} . وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال : حدثنا أبو عبد الرحمن الأذْرَمِيُّ ، حدثنا عبد الوهاب عن عدي{[919]} بن الفضل ، عن أبي المطرف ، عن ابن شهاب : أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأول من أحدث " مَلِكِ " مروان{[920]} . قلت : مروان عنده علم بصحة ما قرأه ، لم يطلع عليه ابن شهاب ، والله أعلم .
وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مَرْدُويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }{[921]} ومالك مأخوذ من الملْك ، كما قال : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ] وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ } [ الناس : 1 ، 2 ] وملك : مأخوذ من الملك كما قال تعالى : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] وقال : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ } [ الأنعام : 73 ] وقال : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ] .
وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين ، وذلك عام في الدنيا والآخرة ، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه ، كما قال : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] وقال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } [ طه : 108 ] ، وقال : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يقول : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما ، كملكهم في الدنيا . قال : ويوم الدين يوم الحساب للخلائق ، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ، إلا من عفا عنه . وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف ، وهو ظاهر .
وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى تفسير { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أنه القادر على إقامته ، ثم شرع يضعفه .
والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم{[922]} ، وأن كلا من القائلين بهذا وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ، ولا ينكره ، ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا ، كما قال : { المْلُكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] والقول الثاني يشبه قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } ، [ الأنعام : 73 ] والله أعلم .
والمَلِك في الحقيقة هو الله عز وجل ؛ قال الله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله ، وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ " وفي القرآن العظيم : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } ، { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ } { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } وفي الصحيحين : ( مثل الملوك على الأسرة ) .
والدين الجزاء والحساب ؛ كما قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } ، وقال : { أئنا لمدينون } أي مجزيون محاسبون ، وفي الحديث : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أي حاسب نفسه لنفسه ؛ كما قال عمر رضي الله عنه : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } " .
{ مالك يوم الدين } قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } . وقرأ الباقون : { ملك } . وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى { لمن الملك اليوم } ولما فيه من التعظيم . والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك . والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك . وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ العمل . ومالكا بالنصب على المدح أو الحال ، ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وملك مضافا بالرفع والنصب . ويوم الدين يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان " وبيت الحماسة :
ولم يبق سوى العدوا *** ن دناهم كما دانوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ومعناه ، ملك الأمور يوم الدين على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } أوله الملك في هذا اليوم ، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة ، وقيل { الدين } الشريعة ، وقيل الطاعة . والمعنى يوم جزاء الدين ، وتخصيص اليوم بالإضافة : إما لتعظيمه ، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه ، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها ، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب ، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له ، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد ، فيكون دليلا على ما بعده فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد ، وهو الإيجاد والتربية ، والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد . والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما ، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين .
واختلف القراء في قوله تعالى : { ملك يوم الدين }( {[49]} ) . فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين » .
قال الفارسي : «وكذلك قرأها قتادة والأعمش » .
قال مكي : «وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف ، وكذلك قرأها أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وطلحة ، والزبير ، رضي الله عنهم »( {[50]} ) .
وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين » وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملْك يوم الدين » . هذه رواية عبد الوارث عنه( {[51]} ) .
وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي » وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي .
وقرأ أبو حيوة( {[52]} ) «ملِكَ » بفتح الكاف وكسر اللام .
وقرأ ابن السميفع( {[53]} ) ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وأبو صالح السمان ، وأبو عبد الملك الشامي «مالكَ » بفتح الكاف . وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله { إياك } .
ورد الطبري على هذا وقال : «إن معنى السورة : قولوا الحمد لله ، وعلى ذلك يجيء { إياك } و { اهدنا } .
وذكر أيضاً أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب . وبالعكس ، كقول أبي كبير الهذلي( {[54]} ) : [ الكامل ] .
يا ويح نفسي كان جلدة خالد . . . وبياض وجهك للتراب الأعفر
قامت تشكّى إليَّ النفسُ مجهشة . . . وقد حملتُكَ سبعاً سبعينا( {[55]} )
وكقول الله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم }( {[56]} )[ يونس : 22 ] .
وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن ، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين » على أنه فعل ماض .
وقرأ أبو هريرة «مليك » بالياء وكسر الكاف( {[57]} ) .
قال أبو علي : ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك » ، وذلك جائز ، إلا أنه يقرأ بما يجوز ، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض( {[58]} ) . و «المُلك » و «المِلك » بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط ، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى ، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم : [ الطويل ] :
ملكتُ بها كفّي فأنهرتُ فَتْقَها( {[59]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا يصف طعنة فأراد شددت ، ومن ذلك قول أومن بن حجر : [ الطويل ] .
فملَّكَ بالليطِ تحتَ قشرِها . . . كغرقىء بيضٍ كنَّه القيضُ من علِ( {[60]} )
أراد شدد ، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس ، والذي مفعول وليس بصفة لليط ، ومن ذلك قولهم : إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح ، كما قالوا : عقدة النكاح ، إذ النكاح موضع شد وربط ، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له ، وكذلك الملك ، واحتج من قرأ «ملك » بأن لفظة «ملك » أعم من لفظة «مالك » إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك . وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة ، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك . فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلاً يملكها أجمع أو رجلاً هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والأحكام ، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفاً وأعظم ، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها ، كما لكل أحد في ملكه ، ثم عنده زيادة التملك ، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد ، فهو مالكه وملكه ، والقراءتان حسنتان .
وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين » أن أول من قرأ «ملك يوم الدين » مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير ، والدراهم ، والطير ، والبهائم ، ولا يقال ملكها ، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها ، وقد قال الله تعالى : { قل اللهم مالك الملك }( {[61]} ) [ آل عمران : 26 ] .
قال أبو بكر : «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ » ملك يوم الدين «مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أرد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه »( {[62]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين » بغير ألف ، وفيه أيضاً أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين » بألف .
قال أبو بكر : والاختيار عندي «ملك يوم الدين » لأن «الملك » و «الملك » يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت( {[63]} ) العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة ، والملك أفخم وأدخل في المدح ، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه ، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم ، لا ملك لغيره .
قال : والوجه لمن قرأ «ملك » أن يقول : إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه .
قال أبو الحسن الأخفش( {[64]} ) : «يقال » ملك «بين الملك ، بضم الميم ، ومالك بين » المِلك «و » المَلك «بفتح الميم وكسرها( {[65]} ) ، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى ، وروى بعض البغداديين في هذا الوادي » مَلك «و » ملك «و » مِلك «بمعنى واحد » .
قال أبو علي : «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القرءة ب » ملك «أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله ( رب العالمين ) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير » .
قال أبو علي ولا حجة في هذا ، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة ، تقدم العام ثم ذكر الخاص ، كقوله تعالى : { هو الله الخالق البارىء المصور }( {[42]} ) [ الحشر : 24 ] فالخالق يعم وذكر { المصور } لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ، وكما قال تعالى : { وبالآخرة هم يوقنون } [ البقرة : 4 ] بعد قوله : { الذين يؤمنون بالغيب }( {[43]} ) [ البقرة : 3 ] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها ، والتنبيه على وجوب اعتقادها ، والرد على الكفرة الجاحدين لها ، وكما قال تعالى : { الرحمن الرحيم } فذكر الرحمن الذي هو عام ، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيماً }( {[44]} ) [ الأحزاب : 43 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وأيضاً : فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله : [ الطويل ] .
( ومن قبل ربتني فضعت ربوب ) ( {[45]} ) . . . وغير ذلك من الشواهد ، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين » والجر في «ملك » أو «مالك » على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله ، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح ، والإضافة إلى { يوم الدين } في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار ، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد ، وليس هذا كإضافة قوله تعالى :{ وعنده علم الساعة }( {[46]} ) [ الزخرف : 85 ] ، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة ، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها ، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين » أنه يملك مجيئه ووقوعه ، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة ، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة ، وليس ظرفاً اتسع فيه .
قال أبو علي : ومن قرأ «مالك يوم الدين » فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام ، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }( {[47]} ) [ البقرة : 185 ] فنصب { الشهر } على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر ، ولو كان الشهر مفعولاً للزم الصوم للمسافر ، لأن شهادته لشهر كشهادة المقيم ، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر : [ الطويل ] .
ويوماً شهدناه سليماً وعامرا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[48]} )
والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء ، منها الملة . قال الله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }( {[49]} ) [ آل عمران : 19 ] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى ، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته ديناً ، فيقال فلان حسن الدين ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه في قميص عمر الذي رآه يجره : «قيل : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين »( {[50]} ) وقال علي بن أبي طالب : «محبة العلماء دين يدان به » . ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة : فمنه قول العرب في الريح : «عادت هيف لأديانها »( {[51]} ) ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كدينك أمّ الحويرثِ قبلَها *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[52]} )
ومنه قول الشاعر : [ المثقب العبدي ] [ الوافر ] :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أهذا دينه أبداً وديني( {[53]} )
إلى غير من الشواهد ، يقال دين ودينة أي عادة .
ومن أنحاء اللفظة : الدين سيرة الملك وملكته( {[54]} ) ، ومنه قول زهير : [ البسيط ] .
لئن حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسد . . . في دين عمروٍ وحالتْ بينَنَا فَدَكُ( {[55]} )
أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته ، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله { ملك يوم الدين } . ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء ، فمن ذلك قول الفند الزماني( {[56]} ) : [ شهل بن شيبان ] [ الهزج ] .
ولم يبق سوى العدوا . . . ن دنّاهم كما دانوا
أي جازيناهم . ومنه قول كعب بن جعيل( {[57]} ) : [ المتقارب ] .
إذا ما رمونا رميناهمُ . . . ودناهمُ مثل ما يقرضونا
ومنه قول الآخر : ( {[58]} )
واعلمْ يقيناً أنّ ملكَكَ زائلٌ . . . واعلمْ بأنَّ كما تدينُ تدانُ
وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلحُ لتفسير قوله تعالى : { ملك يوم الدين } أي يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها ، كذلك قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وقتادة وغيرهم .
قال أبو علي : يدل على ذلك قوله تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت }( {[59]} ) [ غافر : 17 ] ، و { اليوم تجزون ما كنتم تعملون }( {[60]} ) [ الجاثية : 28 ] . وحكى أهل اللغة : دنته بفعله ديناً بفتح الدال وديناً بكسرها جزيته ، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم .
وقال مجاهد : { ملك يوم الدين } أي يوم الحساب ، مدينين محاسبين وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء . ومن أنحاء اللفظة الدين الذل ، والمدين العبد ، والمدينة الأمة ، ومنه قول الأخطل : ( {[61]} )
رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِها ابنُ مدينةٍ . . . تراه على مِسْحاتِه يَتَرَكَّلُ
أي ابن أمة ، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن ، الميم أصلية ، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره . وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب . ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة ، والديان السائس ، ومنه قول ذي الأصبع( {[62]} ) الحدثان بن الحارث : [ البسيط ] .
لاهِ ابنِ عمّك لا أفضلتَ في حسبٍ . . . يوماً ولا أنتَ دياني فتخزوني
ومن أنحاء اللفظة الدين الحال .
قال النضر بن شميل( {[63]} ) : «سألت أعرابياً عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك » . ومن أنحاء اللفظة الدين الداء ، عن اللحياني( {[64]} ) وأنشد : [ البسيط ]
ما دين قلبك من سلمى وقد دينا( {[65]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو ، فلم يبق إلا قول اللحياني .
إتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى ، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة ، فإنه لما وصف تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم وكان ذلك مفيداً لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم ، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر ، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة ، وكان معظم تلك التشريعات مشتملاً على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة ، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففاً عن المكلفين عِبءَ العصيان لما أمروا به ومثيراً لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكَّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف ، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحُكم في يوم الجزاء : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } [ غافر : 17 ] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم ، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد ، وجعل مِصداقُ ذلك الجزاء يوم القيامة ، ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافاً إلى يوم الدين . فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم ، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم . ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب رحمة وصفحاً ، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها .
فإن قلت فإذا كان إجراء الأوصاف السابقة مؤذناً بأن جميع تصرفات الله تعالى فينا رحمة فقد كفى ذلك في الحث على الامتثال والانتهاء إذ المرء لا يخالف ما هو رحمة به فلا جرم أن ينساق إلى الشريعة باختياره . قلت المخاطبون مراتب : منهم من لا يهتدي لفهم ذلك إلا بعد تعقيب تلك الأوصاف بهذا الوصف ، ومنهم من يهتدي لفهم ذلك ولكنه يظن أن في فعل الملائم له رحمة به أيضاً فربما آثر الرحمة الملائمة على الرحمة المنافرة وإن كانت مفيدة له ، وربما تأول الرحمة بأنها رحمة للعموم وأنه إنما يناله منها حظ ضعيف فآثر رحمة حظه الخاص به على رحمة حظه التابع للعامة . وربما تأول أن الرحمة في تكاليف الله تعالى أمر أغلبي لا مطرد وأن وصفه تعالى بالرحمن بالنسبة لغير التشريع من تكوين ورزقٍ وإحياءٍ ، وربما ظن أن الرحمة في المآل فآثر عاجل ما يلائمه . وربما علم جميع ما تشتمل عليه التكاليف من المصالح باطراد ولكنه ملكته شهوته وغلبت عليه شقوته .
فكل هؤلاء مظنة للإعراض عن التكاليف الشرعية ، ولأمثالهم جاء تعقيب الصفات الماضية بهذه الصفة تذكيراً لهم بما سيحصل من الجزاء يوم الحساب لئلا يفسد المقصود من التشريع حين تتلقفه أفهام كل متأول مضيع . ثم إن في تعقيب قوله : { رب العالمين الرحمن الرحيم } بقوله : { ملك يوم الدين } إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن تتميم .
وقوله ( ملك ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ( مالك ) بالألف فالأول صفة مشبهة صارت اسماً لصاحب المُلك ( بضم الميم ) والثاني اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالمِلك ( بكسر الميم ) وكلاهما مشتق من مَلَك ، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ، والتحقيق والاعتبار ، وقراءة ( ملك ) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن المَلِك بفتح الميم وكسر اللام هو ذو المُلك بضم الميم والمُلك أخص من المِلك ، إذ المُلك بضم الميم هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم وموَاطنهم فلذالك يقال : مَلِك الناس ولا يقال : مَلك الدواب أو الدراهم ، وأما المِلك بكسر الميم فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره .
وقرأ الجمهور ( ملك ) بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبيء صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر في « كتاب الترمذي » . قال ابن عطية : حكى أبو علي عن بعض القراء أن أول من قرأ ( مَلِك يوم الدين ) مروان بن الحكم فرده أبو بكر بن السراج بأن الأخبار الواردة تبطل ذلك فلعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ بها في بلد مخصوص . وأما قراءة ( مالك ) بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير ، ورواها الترمذي في « كتابه » أنها قرأَ بها النبيء صلى الله عليه وسلم وصاحباه أيضاً . وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة . وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة ( ملك ) بدون ألف وقراءة ( مالك ) بالألف من خصوصيات بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة ( مالك ) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين ، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك . ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة ( ملك ) أو ( مالك ) إلى ( يوم ) بتأويل شؤون يوم الدين . على أن ( مالك ) لغة في ( ملك ) ففي « القاموس » : « وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك » .
ويوم الدين يوم القيامة ، ومبدأ الدار الآخرة ، فالدين فيه بمعنى الجزاء ، قال الفِنْد الزماني{[57]} :
فلما صرَّحَ الشــرُّ *** فأَمسى وهْوَ عُريانُ
ولم يَبْقَ سوى العُدوا *** ننِ دِنَّاهم كما دَانُوا
أي جازيناهم على صنعهم كما صنعوا مشاكلة ، أو كما جازَوْا من قبل إذا كان اعتداؤهم ناشئاً عن ثأر أيضاً ، وهذا هو المعنى المتعين هنا وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب .
واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى ، فإنه بعد أن وُصف بأنه رب العالمين وذلك معْنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأُمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم : { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وقال : { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة ، فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر :
*ووقرت ثقيف إلى لاتها{[58]}*
وفي حديث عائشة في « الموطأ » : « كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمَنَاةَ الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل » الحديث{[59]} .
فوُصِفَ اللَّهُ تعالى بأنه رب العالمين كلهم ، ثم عقب بوَصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته ، ثم وصف بأنه مَلِك يوم الدين وهو وَصْف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبىء عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود ، فمَلِك ذلك الزمان هو صاحب المُلك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت مُلكه ، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي ، فأين هذا الوصف من أوصافِ المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك مثل مَلِك الملوك ( شَاهَانْ شَاهْ ) ومَلِك الزمان ومَلِك الدنيَا ( شاهْ جَهان ) وما شابه ذلك . مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين ( أي الجزاء ) للإشعار بأنه معاملة العَامل بما يعادِل أَعماله المَجْزِيَّ عليها في الخير والشر ، وذلك العدلُ الخاص قال تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } [ غافر : 17 ] فلذلك لم يقلْ ملك يوم الحساب فوَصفُه بأنه ملك يَومِ العدل الصِّرف وصف له بأشرف معنى المُلك فإن الملوك تتخلد محَامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المِدْحةَ بذلك . قال النابغة يمدح الملك عَمْرو بن الحارث الغساني ملك الشام :
وكَم جزَانَا بأَيْدٍ غَيرِ ظالمة *** عُرْفاً بعُرف وإنكاراً بإنكارِ
وقال الحارث بن حلزة يمدح الملك عَمرو بن هند اللخمي ملك الحِيرة :
مَلِك مُقْسِطٌ وأَفْضَلُ مَنْ يَمْ *** شِي ومن دون مَا لَدَيْه القَضَاء
وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة { الحمد لله } ، لأن تقييد مُفاد الكلام بأوصاف مُتَعَلَّق ذلك المفاد يُشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مُفاد الكلام مُناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية .