فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ} (4)

ثم ذكر بقية الفاتحة { مالك يَوْمِ الدين } قرئ «مِلك » ، و «مالك » ، و «ملْك » بسكون اللام ، و «مَلَكَ » بصيغة الفعل . وقد اختلف العلماء أيما أبلغ مِلك ، أو مالك ؟ فقيل إن ملكَ أعمّ ، وأبلغ من مالك ، إذ كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكاً ، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرّف إلا عن تدبير الملك ، قاله أبو عبيد ، والمبرّد ، ورجحه الزمحشري .

وقيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكاً للناس ، وغيرهم ، فالمالك أبلغ تصرفاً ، وأعظم . وقال أبو حاتم : إن مالكاً أبلغ في مدح الخالق من ملك ، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك ، وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً . واختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي .

والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر ؛ فالمالك يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع ، والهبة ، والعتق ، ونحوها ، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك ، وحياطته ، ورعاية مصالح الرعية ، فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور ، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور . والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه ، أن الملك صفة لذاته ، والمالك صفة لفعله . و { يوم الدين } ، يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 17 19 ] وهذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ويوم الدين وإن كان متأخراً فقد يضاف اسم الفاعل وما في معناه إلى المستقبل كقولك : هذا ضارب زيداً غداً .

وقد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة ؛ «أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقرأ ملك بغير ألف " . وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس .

وأخرج أحمد والترمذي عن أنس أيضاً : «أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر ، وعثمان كانوا يقرءون مالك بالألف » . وأخرج نحوه سعيد بن منصور ، عن ابن عمر مرفوعاً ، وأخرج نحوه أيضاً وكيع في تفسيره وعبد بن حميد ، وأبو داود وعن الزهري يرفعه مرسلاً . وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد ، وأبو داود عن ابن المسيب مرفوعاً مرسلاً . وقد روي هذا من طرق كثيرة ، فهو أرجح من الأوّل . وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة . «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مالك يوم الدين » وكذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً .

وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : { يوم الدين } يوم يدين الله العباد بأعمالهم .