يجوز أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مشتقٌّ من المَلْك بفتح الميم ، وهو الشدُّ والربط ، قال الشاعر :
مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها *** يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها
ومنه : " إملاكُ العَروسِ " ، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح .
وقُرئ " مالِك " بالألف ، قال الأخفش : " يقال : مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ بضم الميم ، ومالكٌ بيِِّنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها " ، ورُوِي ضَمُّها أيضاً بهذا المعنى . ورُوي عن العربِ : " لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك " مثلثةَ الفاء ، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة ، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ ، والمضمومُ هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره ، والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه ، ولا يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه . وقال الراغب : " والمِلْك - أي بالكسر - كالجنس للمُلْك - أي بالضم - فكل مِلْك - بالكسر - مُلك ، وليس كل مُلك مِلكاً " ، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ ، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك ، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك - بالضم ، ومالِكاً مأخوذ من المِلْك بالكسر . وقيل : الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل مَنْ يَمْلِكُ السياسة : إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ هواها ، وإمَّا في نفسه وفي غيره ، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ .
وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى ، وهذا غير مَرْضِيٍّ ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال : [ " إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن ] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن ، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى " نقله أبو عمر الزاهد في " اليواقيت " . وقال الشيخ شهابُ الدين أبو شامةَ : " وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين ، حتى إنَّ بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى ، وليس هذا بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما ، ثم قال : " حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ " ذكر ذلك عند قوله : " مَلِك يوم الدين ومالِك " .
وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه . فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ " مالك " أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه ، إذ يقال : " مالِكُ الجِّن والإِنس والطير " ، وأنشدوا على ذلك :
سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه *** مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ
وقالوا : " فلانٌ مالكُ كذا " لمَنْ يملكه ، بخلاف " مِلك " فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو : " مَلِك العرب والعجم " ، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في " الرحمن " ، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي " مَلِك " .
وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ " مَلِك " ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ : " مالك " لأنها تكرارٌ ، قال أبو عليّ : " ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً ، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ ، نحو : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ } [ الحشر : 24 ] . وقال أبو حاتم : " مالِك " أَبْلَغُ في مدح الخالق ، و " مَلِك " أبلغُ في مدحِ المخلوقِ ، والفرقُ بينهما أن المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك ، وإذا كان الله تعالَى مَلِكاً كان مالكاً . واختاره ابن العربي . ومنها : أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك ، بخلافِ " مالك " فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم ، ولإِشعارِه بالكثرةِ ، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك ، بقوله تعالى : " قل اللَّهُمَّ مالكَ المُلْكِ " ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم ، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم- الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه .
وقُرئَ مَلْك بسكون اللام ، ومنه :
وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ *** عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا
فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما *** قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها
إذا عُرف هذا فكونُ " مَلِك " نعتاً لله تعالى ظاهر ، فإنه معرفةٌ بالإِضافة ، وأمَّا " مالك " فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً ، لأنَّ إضافته محضة فَيَتعرَّف بها ، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ : " مَلَكَ يومَ الدين " ، فجعل " مَلَك " فعلاً ماضياً ، وإن أُريد به الحالُ أو الاستقبال فَيُشْكِلُ ، لأنه : إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف ، وإذا لم يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً ، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم . والذي ينبغي أن يُقالَ : إنه نعتٌ على معنى أنَّ تقييدَه بالزمانِ غيرُ معتَبَرٍ ، لأنَّ الموصوفَ إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غيرَ معتبرٍ ، فكأنَّ المعنى - والله أعلم - أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ مطلقاً ، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ ، وهذا ما مالَ إليه أبو القاسم الزمخشري .
وإضافةُ مالك ومَلِك إلى " يوم الدين " من باب الاتِّساع ، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم ، والتقدير : مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين .
ونظيرُ إضافة " مالك " إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة " طَبَّاخ " إلى " ساعات " من قول الشاعر :
رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ *** طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ
إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو " زادَ الكَسِل " ، وفي الآيةِ الكريمةِ غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه . ويجوز أن يكونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ حَذْفٍ .
ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ ، ويؤيِّدُه ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ : " مَلَكَ يومَ الدينِ " فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها كونُ " يوم " مفعولاً به . والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل ، ومنهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى " في " مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] ، قال : " المعنى مَكْرٌ في الليل ، إذ الليل لا يُوصَف بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ ، فالمكرُ واقعٌ فيه " . والمشهورُ أن الإِضافةَ : إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى " مَنْ " ، وكونها بمعنى " في " غيرُ صحيح . وأمَّا قولُه تعالى : { مَكْرُ الَّيْلِ }
فلا دَلالةَ فيه ، لأن هذا من باب البلاغة ، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما ، فهو نظيرُ قولهم : نهارُه صائمٌ وليلُه قائم ، وقولِ الشاعر :
أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ *** والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ
لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في ذلك ، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم .
واليومُ لغةً : القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار ، قال تعالى :
{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [ القيامة : 29-30 ] ، وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى ، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار ، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس . وقال الراغب : " اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ الشمس إلى غروبها " ، قلت : وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك .
والدِّيْنِ : مضافٌ إليه أيضاً ، والمرادُ به هنا : الجزاءُ ، ومنه قول الشاعر :
ولم يَبْقَ سوى العُدْوا *** نِ دِنَّاهم كما دَانُوا
أي جازَيْناهم كما جازونا ، وقال آخر :
واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ *** واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ
إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم *** ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا
حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما *** يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ
وله معانٍ أُخَرُ : العادَة ، كقوله :
كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها *** وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ
56- تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني *** أهذا دِينُه أبداً ودِينِي
ودانَ عصى وأطاع ، وذلَّ وعزَّ ، فهو من الأضداد . والقضاءُ ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [ النور : 2 ] أي في قضائِه وحكمه ، والحالُ ، سُئل بعضُ الأعراب فقال : " لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه لأَجَبْتُكَ " أي : على حالة .
يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال : دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً - بفتح الدال وكسرها في المصدر - أي جازَيْتُه . والدِّينُ أيضاً : الطاعةُ ، ومنه : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً } [ النساء : 125 ] أي : طاعةً ، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً ، قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ } [ آل عمران : 83 ] يعني الإِسلام ، بدليل قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] . والدِّينُ : سيرة المَلِك ، قال زهير :
لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ *** في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ
يقال : دِينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ ، ومنه قيل للعبدِ ، مَدين ولِلأمَةِ مَدِينة . وقيل : هو من دِنْتُه إذا جازيته بطاعته ، وجَعَل بعضُهم المدينةَ من هذا الباب ، قاله الراغب . وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها .