غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ} (4)

3

{ مالك يوم الدين } صفة أخرى . واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها ، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها ، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها ، وهذا في عرف الشرع . ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة . والدين الجزاء بالخير والشر " كما تدين تدان " وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل : يا سارق الليلة أهل الدار . وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو { ونادى أصحاب الأعراف } [ الأعراف : 48 ] { وسيق الذين اتقوا ربهم } [ الزمر : 73 ] أو بمعنى الاستمرار نحو : زيد مالك العبيد . فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو : فلان يعطي ويمنع . وحينئذ لا تعمل ، فتكون الإضافة حقيقية ، وقرئ بنصب الكاف ورفعها مدحاً ، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلاً ماضياً ونصب يوم و مليك رفعاً ونصباً وجراً .

في فوائد قوله { مالك يوم الدين } :

الأولى : من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، والموافق والمخالف ، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 6-8 ] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة ، فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك . فيقول : إلهي ماذا عملت ؟ فيقول الله : ألست لما كنت نائماً تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك " الله " ، ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم ، فما نسيت ذلك . ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة " أن لا إله إلا الله " فلا يثقل مع ذكر الله غيره . واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين ، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها . روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار " .

الثانية : من قرأ " مالك " احتج بوجوه : الأول أن فيه حرفاً زائداً فيكون ثوابه أكثر . الثاني : في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله . الثالث : المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك . الرابع : العبد أدون حالاً من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية . الخامس : الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك . السادس : الملك يجب عليه رعاية حال الرعية " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ولا يجب على الرعية خدمة الملك ، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة ، ويصير مسافراً إذا نوى مولاه السفر ، ومقيماً إذا نوى الإقامة . حجة من قرأ " ملك " أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً ، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأناً . وأيضاً { قل أعوذ برب الناس ملك الناس } [ الناس : 1 ، 2 ] لم يقرأ فيه غير " ملك " فتعين . وأيضاً الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به . وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام ، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد . ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام ، أما المتفرعة على الأول فقراءة " مالك " أرجى من قراءة " ملك " لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس ، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام " يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم " والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضاً عاجزاً ، والمالك إن مرض عبده عالجه ، وإن ضعف أعانه . الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة . وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] وفي الآخرة لا ملك إلا هو { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلَّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم ، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً . فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد . ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله " ملك يوم الدين " قوله " رب العالمين الرحمان الرحيم " ومثله { الملك يومئذ الحق للرحمان } [ الفرقان : 26 ] { قل أعوذ برب الناس ملك الناس }

[ الناس : 1 ، 2 ] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض . الكفر سبب لخراب العالم { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا . أن دعوا للرحمان ولداً } [ مريم : 90-91 ] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم ، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه " ملك يوم الدين " أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة { وما ربك بظلام للعبيد } [ ق : 29 ] وبثبوت العدل أخرى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] فلا خلة للملك أعم نفعاً وأتم وقعاً من أن يكون عادلاً . ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلاً أو جائراً . يحكى أن أنوشروان خرج يوماً إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش ، فرأى بستاناً فيه رمان . فلما دخله قال لصبي فيه : أعطني رمانة ، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيراً ، فشربه وأعجبه ذلك ، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه . ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً . فقال : أيها الصبي ، لم صار الرمان هكذا ؟ فقال الصبي : فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا ، فتاب أنوشروان في قلبه وأناب ، وقال للصبي : أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة ؟ فقال : لعل الملك تاب عن ظلمه . فلما وجد أنوشروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية ، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى الله عليه وسلم " ولدت في زمن الملك العادل " .

الثالثة : كونه مالكاً وملكاً معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها ، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع . وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضاً ، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره ، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات ، فلا مالك ليوم الدين إلا الله . فإن قيل : لا يكون مالكاً إلا إذا كان المملوك موجوداً لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال " مالك يوم الدين " بالتنوين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد كان إقراراً ، ولو قال : أنا قاتل زيداً كان تهديداً . قلنا : لما كان قيام القيامة أمراً حقاً لا يجوز الإخلال به في الحكمة ، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال . ولو قيل : من مات فقد قامت قيامته زال السؤال .

الرابعة : قالت القدرية : إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم ، فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين . قلنا : خلق الجنة وخلق أهلاً لها ، وخلق النار وخلق أهلاً لها ، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك . فخلق لكل صفة مظهراً ولا يسأل عما يفعل ، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل .

الخامسة : في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة : الله ، الرب ، الرحمان ، الرحيم ، المالك . كأنه يقول : خلقتك أولاً فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمان ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمان الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف ، ومع ذلك عقبها بقوله { مالك يوم الدين } كيلا يغتروا بها . ونظيره { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [ غافر : 3 ] .

السادسة : الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملاً في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك ، وإما لكونه محسناً إليك ، وإما رجاء وطمعاً في المستقبل ، وإما خوفاً ورهبة ، فكأنه سبحانه يقول : إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله ، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمان الرحيم ، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين .