جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
القراء مختلفون في تلاوة "ملك يوم الدين"، فبعضهم يتلوه: "مَلِكِ يوم الدين"، وبعضهم يتلوه: "مالكِ يوم الدين "وبعضهم يتلوه: "مالِكَ يوم الدين" بنصب الكاف...
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن المَلِكَ من «المُلْك» مشتقّ، وأن المالك من «المِلْك» مأخوذ.
فتأويل قراءة من قرأ ذلك: "مَلِكِ يَوْمِ الدّين" أن لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه المُلْك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية، فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصّغَرة الأذلة، وأن له دونهم ودون غيرهم المُلْك والكبرياء والعزّة والبهاء، كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله:{يَوْمَ هُمْ بَارزُونَ لاَ يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلّهِ الوَاحدِ القَهّار} فأخبر تعالى أنه المنفرد يومئذٍ بالمُلْك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصَغَار، ومن دنياهم في المعاد إلى خسار.
وأما تأويل قراءة من قرأ: "مالكِ يَوْمِ الدّينِ" فعن عبد الله بن عباس: {مالكِ يَوْمِ الدّينِ} يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا. ثم قال:{لاَ يَتَكَلّمُونَ إِلاّ مَنْ أذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وقالَ صَوَابا}، وقال: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ} ، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى}...
وأولى التأويلين بالآية وأصحّ القراءتين في التلاوة عندي التأويل الأول، وهي قراءة من قرأ «مَلِك» بمعنى «المُلْك» لأن في الإقرار له بالانفراد بالملك إيجابا لانفراده بالملك وفضيلة زيادة الملك على المالك، إذ كان معلوما أن لا ملِك إلا وهو مالك، وقد يكون المالك لا مَلِكا.
وبعد: فإن الله جل ذكره قد أخبر عباده في الآية التي قبل قوله: {مَالِك يَوْمِ الدينِ} أنه مالك جميع العالمين وسيدهم، ومصلحهم والناظر لهم، والرحيم بهم في الدنيا والاَخرة بقوله: {الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ}.
فإذا كان جل ذكره قد أنبأهم عن مُلْكهِ إياهم كذلك بقوله: {رَبّ العَالمينَ} فأولى الصفات من صفاته جل ذكره، أن يتبع ذلك ما لم يحوه قوله: {رَبّ العَالَمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ} مع قرب ما بين الآيتين من المواصلة والمجاورة، إذ كانت حكمته الحكمة التي لا تشبهها حكمة.
وكان في إعادة وصفه جل ذكره بأنه مالك يوم الدين، إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله: "رَبّ العَالَمِينَ" مع تقارب الآيتين وتجاور الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرار ألفاظ مختلفة بمعانٍ متفقة، لا تفيد سامع ما كرّر منه فائدة به إليها حاجة. والذي لم يحوه من صفاته جل ذكره ما قبل قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدّينِ) المعنى الذي في قوله: "ملك يوم الدين"، وهو وصفه بأنه المَلِك. فبينٌ إذا أن أولى القراءتين بالصواب وأحق التأويلين بالكتاب: قراءة من قرأه: "ملك يوم الدين"، بمعنى إخلاص الملك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ: مالك يوم الدين بمعنى: أنه يملك الحكم بينهم وفصل القضاء متفرّدا به دون سائر خلقه...
وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ: (مالكَ يَوْمِ الدّينِ) فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصبه بنيّة النداء والدعاء...
و"الدين" في هذا الموضع بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال... عن عبد الله بن عباس: "يَوْمِ الدّين" قال: يوم حساب الخلائق هو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر، إلا من عفا عنه، فالأمرُ أمره، ثم قال: "ألاَ لَه الخَلْقُ والأمْرُ".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... والفرق بين المالك والملك من وجهين:
أحدهما: أن المالك مَنْ كان خاصَّ المُلكِ، والملِك مَنْ كان عَامَّ المُلْك.
والثاني: أن المالك من اختص بملك الملوك، والملك من اختص بنفوذ الأمر.
واختلفوا أيهما أبلغ في المدح، على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن المَلِك أبلغ في المدح من المالك، لأنَّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ، وليسَ كلُّ مالِكٍ ملِكاً، ولأن أمر الملِكِ نافذ على المالِكِ.
والثاني: أن مالك أبلغ في المدح من مَلِك، لأنه قد يكون ملكاً على من لا يملك، كما يقال ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم، ولا يكون مالكاً إلا على من يملك، ولأن المَلِك يكون على الناس وغيرهم.
والثالث: وهو قول أبي حاتم، أن مَالِك أبلغ في مدح الخالق من مَلِك، ومَلِك أبلغ من مدح المخلوق من مالك. والفرق بينهما، أن المالك من المخلوقين، قد يكون غير ملك، وإن كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً، فإن وُصف الله تعالى بأنه ملك، كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك، كان من صفات أفعاله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
..."و يوم الدين" عبارة عن زمان الجزاء كله، وليس المراد به ما بين المشرق والمغرب وطلوع الشمس إلى غروبها...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الملك: هو الذات التي لا تحتاج إلى شيء، ويحتاج إليها كل شيء...
أما قوله: {ملك يوم الدين} فإشارة إلى الآخر في المعاد... مع الإشارة إلى معنى المُلك والملك وذلك من صفات الجلال...
استثر من قلبك التعظيم والخوف بقولك: {ملك يوم الدين}، أما العظمة: فلأن لا ملك إلا له، وأما الخوف: فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه من كونه رباً مالكاً للعالمين، لا يخرج منهم شيء من ملكوته وربوبيته، ومن كونه منعماً بالنعم كلها الظاهرة والباطنة والجلائل والدقائق، و من كونه مالكاً للأمر كله في العاقبة يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق في قوله: الحمد لله دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله.
وأما قوله تعالى: {مالك يوم الدين} فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا، وسنوه كالفراسخ، وشهوره كالأميال، وأنفاسه كالخطوات، ومقصده الوصول إلى عالم أخراه؛ لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات، فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسماوات، فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة، إذا عرفت هذا فنقول: قوله {مالك يوم الدين} إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
المَلِك في الحقيقة هو الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله، وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" وفي القرآن العظيم: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} وفي الصحيحين: (مثل الملوك على الأسرة).
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً، وكانت الربوبية لا تتم إلا بالملك المفيد لتمام التصرف، وكان المالك قد لا يكون ملكا ولا يتم ملكه إلا بالملك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر، اتبع ذلك بقوله: {ملِك يوم الدين} ترهيباً من سطوات مجده.
قال الحرالّي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر، ثم قال: و {يوم الدين} في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة، حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب، وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام:"إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء" وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا: {مس آباءنا الضراء والسراء} [الأعراف:95] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى:30] وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: "الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفَسها "وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم،... وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك.
وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدع أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة، وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي، لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى:} سيجزيهم وصفهم} [الأنعام:193] و} جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. [الأحقاف: 4]، [الواقعة: 24] وبه تم انتهاء الشرف العلي، وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: "مجدني عبدي" انتهى.
ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة "مَلِك" وقراءة "مالك" جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر، ولا معنى للمَلِك سوى هذا، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى، لم يكن خلاف في {ملِك الناس} [الناس: 2]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
مجموع القراءتين "ملك "و"مالك" يدل على المعنيين، فكلاهما ثابت، ولكن القراءة في الصلاة بملك يوم الدين تثير من الخشوع ما لا تثيره القراءة الأخرى التي يفضلها بعضهم لأنها تزيد حرفا في النطق. وورد في الحديث أن للقارئ بكل حرف كذا حسنة، ولكن فاتهم أن حسنة واحدة تكون أكبر تأثيرا في القلب خير من مائة حسنة تكو ن دونها في التأثير...
و "الدين" يطلق في اللغة على الحساب وعلى المكافأة... وعلى الطاعة، وعلى الإخضاع وعلى السياسة... وعلى الشريعة وما يؤخذ العباد به من التكاليف. والمناسب هنا من هذه المعاني الجزاء والخضوع.
وإنما قال {يوم الدين} ولم يقل "الدين" لتعريفنا بأن للدين يوما ممتازا عن سائر الأيام، وهو اليوم الذي يلقى فيه كل عامل عمله ويوفّى جزاءه.
ولسائل أن يسأل: أليست كل الأيام أيام جزاء، وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم؟ والجواب بلى، إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا، ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها. والجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من الأفراد، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من الجزاء كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة. وأما الأفراد فإننا نرى كثيرا من المسرفين الظالمين يقضون أعمارهم منغمسين في الشهوات واللذات، نعم إن ضمائرهم توبخهم أحيانا وإنهم لا يسلمون من المنغصات، وقد يصيبهم النقص في أموالهم، وعافية أبدانهم، وقوة عقولهم.
ولكن هذا كله لا يقابل بعض أعمالهم القبيحة، لا سيما الملوك والأمراء الذين تشقى بأعمالهم السيئة أمم وشعوب. كذلك نرى من المحسنين في أنفسهم وللناس من يبتلى بهضم حقوقه، ولا ينال الجزاء الذي يستحقه على عمله، فإن كان ينال رضاء نفسه وسلامة أخلاقه وصحة ملكاته، فما ذلك كل ما يستحق. وفي ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العاملين جزاءه كاملا لا يظلم شيئا منه، كما قال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. علمنا الله أنه رحمان رحيم ليجذب قلوبنا إليه، ولكن هل يشعر كل عباده بهذه المنة فينجذبوا إليه الانجذاب المطلوب؟ أليس فينا من يسلك كل سبيل، لا يبالي بمستقيم ومعوج؟ بلى، ولهذا أعقب سبحانه ذكر الرحمة بذكر الدين، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم على أعمالهم، فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما: الترغيب والترهيب، كما تشهد بذلك آيات القرآن الكثيرة {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"مالك يوم الدين".. وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة.. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. و"يوم الدين" هو يوم الجزاء في الآخرة.. وكثيرا ما اعتقد الناس بألوهية الله، وخلقه للكون أول مرة، ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء.. والقرآن يقول عن بعض هؤلاء: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: الله"، ثم يحكي عنهم في موضع آخر: "بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أئذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد!"
والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض، فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور. وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة لله، وفي ثقة بالخير، وفي إصرار على الحق، وفي سعة وسماحة ويقين..
ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها، والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر، وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير، وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها..
وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل، فهما صنفان مختلفان من الخلق، وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء.. وهذا هو مفرق الطريق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة، فإنه لما وصف تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم، وكان ذلك مفيداً لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة، وكان معظم تلك التشريعات مشتملاً على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففاً عن المكلفين عِبءَ العصيان لما أمروا به ومثيراً لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك، وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكَّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحُكم في يوم الجزاء: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} [غافر: 17] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد، وجعل مِصداقُ ذلك الجزاء يوم القيامة، ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافاً إلى يوم الدين؛ فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه، لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب رحمة وصفحاً، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزي عليها...
وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة "ملك "بدون ألف وقراءة "مالك" بالألف من خصوصيات بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة "ملك" ومفهوم كلمة "مالك"، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة "ملك" أو "مالك" إلى "يوم" بتأويل شؤون يوم الدين، على أن "مالك" لغة في "ملك" ففي « القاموس»: « وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك».
ويوم الدين: يوم القيامة، ومبدأ الدار الآخرة، فالدين فيه بمعنى الجزاء، وهذا هو المعنى المتعين هنا، وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب. واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى، فإنه بعد أن وُصف بأنه رب العالمين وذلك معْنى الإلهية الحقة، إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان، فقد كانت الأُمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم: {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى} [طه: 88] وقال: {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة... فوُصِفَ اللَّهُ تعالى بأنه رب العالمين كلهم، ثم عقب بوَصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته، ثم وصف بأنه مَلِك يوم الدين وهو وَصْف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود، فمَلِك ذلك الزمان هو صاحب المُلك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت مُلكه، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، فأين هذا الوصف من أوصافِ المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك مثل مَلِك الملوك (شَاهَانْ شَاهْ) ومَلِك الزمان ومَلِك الدنيَا (شاهْ جَهان) وما شابه ذلك. مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين (أي الجزاء) للإشعار بأنه معاملة العَامل بما يعادِل أَعماله المَجْزِيَّ عليها في الخير والشر، وذلك العدلُ الخاص، قال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم} [غافر: 17] فلذلك لم يقلْ ملك يوم الحساب فوَصفُه بأنه ملك يَومِ العدل الصِّرف وصف له بأشرف معنى المُلك فإن الملوك تتخلد محَامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المِدْحةَ بذلك... وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة {الحمد لله}، لأن تقييد مُفاد الكلام بأوصاف مُتَعَلَّق ذلك المفاد يُشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مُفاد الكلام مُناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية.
إذا كانت كل نعم الله تستحق الحمد.. فإن {مالك يوم الدين} تستحق الحمد الكبير.. لأنه لو لم يوجد يوم للحساب، لنجا الذي ملأ الدنيا شروراً، دون أن يجازى على ما فعل.. ولكان الذي التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقي في الحياة الدنيا.. ولكن لأن الله تبارك وتعالى هو {مالك يوم الدين}.. فقد أعطى الاتزان للوجود كله.. هذه الملكية ليوم الدين هي التي حمت الضعيف والمظلوم وأبقت الحق في كون الله.. إن الذي منع الدنيا أن تتحول إلى غابة يفتك فيها القوي بالضعيف والظالم بالمظلوم هو أن هناك آخرة وحساباً، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب خلقه، والإنسان المستقيم استقامته تنفع غيره؛ لأنه يخشى الله ويعطي كل ذي حق حقه ويعفو ويسامح.. إذن كل من حوله قد استفاد من خلقه الكريم ومن وقوفه مع الحق والعدل. أما الإنسان العاصي فيشقى به المجتمع لأنه لا أحد يسلم من شره ولا أحد إلا يصيبه ظلمه.. ولذلك فإن {مالك يوم الدين} هي الميزان.. تعرف أنت أن الذي يفسد في الأرض تنتظره الآخرة.. لن يفلت مهما كانت قوته ونفوذه، فتطمئن اطمئنانا كاملاً إلى أن عدل الله سينال كل ظالم.
على أن {مالك يوم الدين} لها قراءتان.. {مالك يوم الدين}.. وملك يوم الدين. والقراءتان صحيحتان.. والله تبارك وتعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بأنه: {مالك يوم الدين}.. ومالك الشيء هو المتصرف فيه وحده.. ليس هناك دخل لأي فرد آخر... فمالك يوم الدين.. معناها أن الله سبحانه وتعالى سيصرف أمور العباد في ذلك اليوم بدون أسباب.. وأن كل شيء سيأتي من الله مباشرة... دون أن يستطيع أحد أن يتدخل ولو ظاهراً.. ففي الدنيا يعطي الله الملك ظاهرا لبعض الناس.. ولكن في يوم القيامة... الأمر مباشر من الله سبحانه وتعالى... الملك في ظاهر الدنيا من الله يهبه لمن يشاء.. واقرأ قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} (سورة آل عمران 26). ولعل قوله تعالى: {تنزع} تلفتنا إلى أن أحدا في الدنيا لا يريد أن يترك الملك.. ولكن الملك يجب أن ينتزع منه انتزاعا رغما عن إرادته.. والله هو الذي ينزع الملك ممن يشاء.. وهنا نتساءل هل الملك في الدنيا والآخرة ليس لله؟.. نقول الأمر في كل وقت لله.. ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلقه أو مكنهم من الملك في الأرض.. ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} (سورة البقرة 258). والذي حاج إبراهيم في ربه كافر منكر للألوهية.. ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته.. بل الله جل جلاله هو الذي آتاه الملك.. إذن الله تبارك وتعالى هو الذي استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك الأرض ظاهريا... والملك الظاهر يمتحن فيه العباد، فيحاسبهم الله يوم القيامة.. كيف تصرفوا؟ وماذا فعلوا؟.. ويمتحن فيه الناس هل سكتوا على الحاكم الظالم؟.. وهل استحبوا المعصية؟ أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم؟.. والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد.. ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم...
و... الملك يتصرف في مُلكه ومُلك غيره.. فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره.
الذين [قرأوا]: {مالك يوم الدين} أثبتوا لله سبحانه وتعالى أنه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من أحد ولو ظاهرا: والذين يقرأون ملك.. يقولون إن الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم يقضي في أمر خلقه حتى الذين ملكهم في الدنيا ظاهرا.. ونحن نقول عندما يأتي يوم القيامة... الله تبارك وتعالى يريد أن يطمئن عباده.. أنهم إذا كانوا قد ابتلوا بمالك أو ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله جل جلاله..
[و] عندما تقول مالك أو ملك يوم الدين.. هناك يوم وهناك الدين.. اليوم عندنا من شروق الشمس إلى شروق الشمس.. هذا ما نسيمه فلكيا يوما.. واليوم في معناه ظرف زمان تقع فيه الأحداث.. والمفسرون يقولون: {مالك يوم الدين} أي مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك.. نقول إن هذا بمقاييس ملكية البشر، فنحن لا نملك الزمن.. الماضي لا نستطيع أن نعيده، والمستقبل لا نستطيع أن نأتي به.. ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان.. والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان.. كذلك قوله تعالى: {مالك يوم الدين} لا يحده زمان ولا مكان.. واقرأ قوله سبحانه: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (سورة الحج 47). وقوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ} (سورة المعارج 4). وإذا تأملنا هاتين الآيتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى.. ذلك أن الله جل جلاله هو خالق الزمن.. ولذلك فإنه يستطيع أن يخلق يوما مقداره ساعة.. ويوما كأيام الدنيا مقداره أربع وعشرون ساعة.. ويوم مقداره ألف سنة.. ويوما مقداره خمسون ألف سنة ويوما مقداره مليون سنة.. فذلك خاضع لمشيئة الله. ويوم الدين موجود في علم الله سبحانه وتعالى. بأحداثه كلها بجنته وناره.. وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه.. وعندما يريد أن يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله إلى علم خلقه.. سواء أكانوا من الملائكة أم من البشر أو الجان يقول: كن.. فالله وحده هو خالق هذا اليوم.. وهو وحده الذي يحدد كل أبعاده.. واليوم نحن نحدده ظاهرا بأنه أربع وعشرون ساعة.. ونحدده بأنه الليل والنهار.. ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الأرض.. فعندما تتحرك الأرض، كل حركة هي نهاية نهار في منطقة وبداية نهار في منطقة أخرى.. وبداية ليل في منطقة ونهاية ليل في منطقة أخرى.. ولذلك في كل لحظة ينتهي يوم ويبدأ يوم.. وهكذا فإن الكرة الأرضية لو أخذتها بنظرة شاملة لما انتهي عليها نهار أبدا.. ولا انتهي عنها ليل أبدا.. إذن فاليوم نسبي بالنسبة لكل بقعة في الأرض.. ولكنه في الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الأرضية. والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده.. أنهم إذا أصابهم ظلم في الدنيا.. فإن هناك يوما لا ظلم فيه.. وهذا اليوم الأمر فيه لله وحده بدون أسباب.. فكل إنسان لو لم يدركه العدل والقصاص في الدنيا فإن الآخرة تنتظره.. والذي اتبع منهج الله وقيد حركته في الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى أن هناك يوم سيأخذ فيه أجره وعظمة الآخرة أنها تعطيك الجنة.. نعيم لا يفوتك ولا تفوته...
قول الحق سبحانه وتعالى: {مالك يوم الدين}.. هي قضية ضخمة من قضايا العقائد.. لأنها تعطينا أن البداية من الله، والنهاية إلى الله جل جلاله.. وبما أننا جميعا سنلقى الله، فلابد أن نعمل لهذا اليوم.. ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله.. وأنه سيحاسبه يوم القيامة.. ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس في باله الله.. وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} (سورة النور 39). وهكذا من يفعل شيئا وليس في باله الله.. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود وأنه جل جلاله هو الذي سيحاسبه. وقوله تعالى: {مالك يوم الدين} هي أساس الدين.. لأن الذي لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء.. فمادام يعتقد أنه ليس هناك آخره وليس هناك حساب.. فمم يخاف؟.. ومن أجل من يقيد حركته في الحياة.. إن الدين كله بكل طاعاته وكل منهجه قائم على أن هناك حسابا في الآخرة.. وأن هناك يوما نقف فيه جميعا أمام الله سبحانه وتعالى.. ليحاسب المخطئ ويثيب الطائع.. هذا هو الحكم في كل تصرفاتنا الإيمانية.. فلو لم يكن هناك يوم نحاسب فيه.. فلماذا نصلي؟.. ولماذا نصوم؟.. ولماذا نتصدق؟.. إن كل حركة من حركات منهج السماء قائمة على أساس ذلك اليوم الذي لن يفلت منه أحد.. والذي يجب علينا جميعا أن نستعد له..
إن الله سبحانه وتعالى سمى هذا اليوم بالنسبة للمؤمنين يوم الفوز العظيم.. والذي يجعلنا نتحمل كل ما نكره ونجاهد في سبيل الله لنستشهد.. وننفق أموالنا لنعين الفقراء و المساكين.. كل هذا أساسه أن هناك يوما سنقف فيه بين يدي الله.. والله تبارك وتعالى سماه يوم الدين.. لأنه اليوم الذي سيحاسب فيه كل إنسان على دينه عمل به أم ضيعه.. فمن آمن واتبع الدين سيكافأ بالخلود في الجنة.. ومن أنكر الدين وأنكر منهج الله سيجازى بالخلود في النار. ومن عدل الله سبحانه وتعالى أن هناك يوما للحساب.. لأن بعض الناس الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا.. هل هؤلاء الذين أفلتوا في الدنيا من العقاب هل يفلتون من عدل الله؟.. أبدا لن يفلتوا.. بل إنهم انتقلوا من عقاب محدود إلى عقاب خالد.. وأفلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا.. إلى عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة.. ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان.. فيعاقب فيه كل من أفسد في الأرض وأفلت من العقاب... وهو وحده الذي سيقضي بين خلقه. فالله سبحانه وتعالى يعامل خلقه جميعا معاملة متساوية.. وأساس التقوى هو يوم الدين...
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
...الإِيمان باليوم الآخر ليس من الأمور الهامشية التي لا صلة لها بعمق الفكر ولا أثر لها في واقع الحياة ولكنه ركيزة أساسية في بناء الحياة الفكرية والعملية، ولذلك نجد الإِيمان به يأتي رديف الإِيمان بالله في الذكر سواء في آيات الكتاب أو في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصا عندما يستدعي الحال تأكيد أمر أو نهي فكثيرا ما يأتي في القرآن {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} أو ما يفيد مفاد هذا التعبير في حال التأكيد، كما نسمع كثيرا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فليفعل كذا "أو "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يفعل كذا" وفي ذلك ما يكفي برهانا أن الإِيمان باليوم الآخر كالإِيمان بالله في عمق أثرهما في سلوك الإِنسان وقوة تأثيرهما في توجيه ميوله ورغباته وضبط غرائزه ونزعاته، وهذا لأن الإِيمان بالله يعني الإِيمان بالمبدأ والإِيمان باليوم الآخر يعني الإِيمان بالمصير وهل تبقى للإِنسان قيمة إن جهل المبدأ أو المصير، وماذا عسى أن تكون حالة هذا الإِنسان الذي يعيش على هامش الحياة لا يستشعر حقوقا عليه لمبدئه، ولا مسئولية يخشى مغبتها في مصيره وإنما يلهو ويمرح ويأكل ويشرب ويسافد ويتناسل شأن البهائم التي لا عقل لها ولا ضمير أما إذا أدرك واستيقن أن له مُبدئا أخرجه من العدم واسبغ عليه صنوف النعم وبوأه في الأرض ومكن له فيها فإن إدراكه لذلك يحيي في نفسه شعور الافتقار إلى تحري مرضاة هذا المبدئ الكريم والخالق العظيم فيدعوه ذلك إلى أن يستمد منه منهج حياته وميزانه الذي يعرف به الخير والشر والنفع والضر ولكنه مع ذلك قد يتعامى عن قصد السبيل لما يتجاذبه من طبائع النفس ويتقاضاه من مطالب الحياة فهو واقع بين العواطف الملتهبة والغرائز الجارفة والمطالب المختلفة والدوافع المتنوعة فلا عجب إذا أنساه ذلك ما يجب عليه تجاه خالقه وتجاه الخلق، ولكن إيمانه بالمنقلب الذي يلقى فيه جزاءه يجعله يستعلى على ضرورات حياته ورغبات نفسه ودوافع غرائزه فلا يجعل العواطف أساسا لتعامله مع الناس ولا الغرائز مقياسا للنفع والضر والخير والشر،
وحياة الإِنسان في الأرض حياة محدودة بل حياة وهمية إذ لا يعرف أحد مقدار بقائه فيها فهو ينتظر فراقها بين لحظة وأخرى، فإذا لم يؤمن بحياة أطول يجازى فيها على عمله كان ذلك داعيا إلى التقاعس عن الخير واستغلال ما يمكن من المنافع العاجلة ولو على حساب الآخرين وما الذي يدعوا الإِنسان إلى التفاني في البر وهو غير واثق من استيفاء جزائه في هذه الحياة الدنيا ولا راجٍ حياة أخرى يطمع فيها أن يلقى أجر ما كسب، وعدم الإيمان بالمعاد مدعاة للقلق بسبب عدم وثوق الإِنسان من التعمير في هذه الدنيا، وهبه معمرا فيها فإنه لا بد له من يوم يواجه فيه الموت الكريه، فهو يحسب حسابه باستمرار ليوم فنائه الذي يفرق ما جمع، ويأتي على ما كسب، وما الليل والنهار إلا مطيته الدؤوب التي تسير به إلى ذلك اليوم وهذا يدعوه -مع عدم اعتقاد المعَاد- إلى التكاسل عن واجباته الاجتماعية، أما إذا وثق بأنه سيعاد كما كان مرة أخرى وسيوفى جزاء عمله فإن وثوقه بذلك سبب لطمأنينة نفسه ونشاطها في العمل...
وقوله تعالى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جاء في هذه السورة الكريمة لقرن الترهيب بالترغيب، فإن الآيات السابقة آيات مبشرات، وقد قضت سنة الله في كتابه أن يجتمع الوعد والوعيد غالبا في آية أو آيات متجاورة لحكمة بالغة علمها الله تعالى، فإن العباد بحاجة إلى تربيتهم بالترغيب والترهيب، وإيقاظ الشعور بالخوف والرجاء في نفوسهم لينشطوا للأعمال الصالحة بباعث الرجاء، وليحاذروا الأعمال السيئة لداعي الخوف،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تعبير "مَالِكِ "يوحي بسيطرة الله التامة وهيمنته المستحكمة على كل شيء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضراً، فلا يضيع أي شيء مهما صغر ولا يُنسى، والإِنسانُ وحده يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنّة استنّها في الأرض أو مشروع أقامه. مالكية الله في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم. ملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق اُخرى. لكن ملكية الله لعالم الكون ملكية حقيقية، تتمثل في ارتباط الموجودات ارتباطا خاصاً بالله. ولو انقطع هذا الارتباط لحظة لزالت الموجودات تماماً مثل زوال النور من المصابيح الكهربائية، حين ينقطع اتصالها بالمولّد الكهربائي. بعبارة اُخرى: مالكية الله نتيجة خالقيته وربوبيته. فالذي خلق الموجودات ورعاها وربّاها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات.
أما تعبير "يَوْمِ الدِّينِ"، فحيثما ورد في القرآن يعني يوم القيامة...