الرابعة عشرة : قوله تعالى : " مالك يوم الدين " قرأ محمد بن السَّمَيفع بنصب مالك ، وفيه أربع لغات : مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من مَلِك - ومَليك . قال الشاعر{[77]} :
وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوَالٍ *** عصينا المَلْك فيها أن نَدينا
وقال آخر{[78]} :
فاقنع بما قسم المليكُ فإنما*** قسمَ الخلائقَ بيننا عَلامُها
الخلائق : الطبائع التي جبل الإنسان عليها . وروي عن نافع إشباع الكسرة في " مَلِكِ " فيقرأ " ملكي " على لغة من يشبع الحركات وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره .
الخامسة عشرة : اختلف العلماء أيما أبلغ : ملك أو مالك ؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر . ذكرهما الترمذي فقيل : " ملك " أعم وأبلغ من " مالك " إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قاله أبو عبيدة والمبرد . وقيل : " مالك " أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع ، ثم عنده زيادة التملك . وقال أبو علي : حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب " مالك " أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقول : " رب العالمين " فلا فائدة في قراءة من قرأ " مالك " لأنها تكرار . قال أبو علي : ولا حجة في هذا ؛ لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله : " هو الله الخالق البارئ المصور " فالخالق يعم . وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى : " وبالآخرة هم يوقنون " بعد قوله : " الذين يؤمنون بالغيب " . والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما قال : " الرحمن الرحيم " فذكر " الرحمن " الذي هو عام وذكر " الرحيم " بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله : " وكان بالمؤمنين رحيما " . وقال أبو حاتم : إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من " ملك " و " ملك " أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك ، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا ، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه ، الأول : أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول : مالك الدار والأرض والثوب كما تقول : مالك الملوك . الثاني : أنه يطلق على مالك القليل والكثير ، وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا . والثالث : أنك تقول : مالك الملك ولا تقول : ملك الملك . قال ابن الحصار : إنما كان ذلك لأن المراد من " مالك " الدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن " الملك " - بضم الميم - و " ملك " يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة . ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : " إن الله اصطفاه{[79]} عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " [ البقرة : 247 ] ولهذا قال عليه السلام : ( الإمامة في قريش ) وقريش أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف . ويتضمن الاقتدار والاختيار ، وذلك أمر ضروري في الملك ، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره ، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته ، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد ، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام : " ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين . لأعذبنه عذابا شديدا{[80]} " [ النمل : 20 ، 21 ] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك .
قلت : وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ ؛ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك .
قلت : هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى ، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في مالك على ما بينا ، والله أعلم .
السادسة عشرة : لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا الله عز وجل ) قال سفيان{[81]} : مثل : شاهان شاه . وقال أحمد بن حنبل : سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال : أوضع . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل [ كان ] يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه ) . قال ابن الحصار : وكذلك " ملك يوم الدين " و " مالك الملك " لا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء ، وأما الوصف بمالك وملك وهي :
السابعة عشرة : فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما ، قال الله العظيم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا{[82]} " [ البقرة : 247 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : ( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج{[83]} هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ) .
الثامنة عشرة : إن قال قائل : كيف قال " مالك يوم الدين " ويوم الدين لم يوجد بعد ، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده ؟ قيل له : اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك ، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا ، كقولك : هذا ضارب زيد غدا ، أي سيضرب زيدا . وكذلك : هذا حاج بيت الله في العام المقبل ، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد ، وإنما أريد به الاستقبال ، فكذلك قوله عز وجل : " مالك يوم الدين " على تأويل الاستقبال ، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر .
ووجه ثان : أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة ، أي إنه قادر في يوم الدين ، أو على يوم الدين وإحداثه ؛ لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته ، لا يمتنع عليه منها شيء .
والوجه الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها ، قاله أبو القاسم الزجاجي .
ووجه ثالث : فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره ؟ قيل له : لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما ، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه ، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى : " لمن الملك اليوم{[84]} " [ غافر : 16 ] فأجاب جميع الخلق : " لله الواحد القهار " [ غافر : 16 ] فلذلك قال : مالك يوم الدين ، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو .
التاسعة عشرة : إن وُصِف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته ، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله .
الموفية العشرين : اليوم : عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس ، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما . وقد يطلق اليوم على الساعة منه ، قال الله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم{[85]} " [ المائدة : 3 ] وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم ، وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال : يوم أيوم كما يقال : ليله ليلاء . قال الراجز :
نِعْم{[86]} أخو الهيجاء في اليوم اليمِي
وهو{[87]} مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ، ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا ، كما قالوا : أدْلٍ في جمع دلو .
الحادية والعشرون : الدين : الجزاء على الأعمال والحساب بها ، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل عليه قوله تعالى : " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق{[88]} " [ النور : 25 ] أي حسابهم . وقال : " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " [ غافر : 17 ] و " اليوم تجزون ما كنتم تعملون{[89]} " [ الجاثية : 28 ] وقال : " أئنا لمدينون{[90]} " [ الصافات : 53 ] أي مجزيون محاسبون . وقال لبيد :
حصادكَ يوماً ما زرعت وإنما *** يُدَانُ الفتى يوماً كما هو دائن
إذا رمونا رميناهم *** ودِنَّاهم مثل ما يُقرضونا
واعلم يقيناً{[91]} أن ملكك زائلٌ *** واعلم بأنّ كما تَدِينُ تدان
وحكى أهل اللغة : دِنته بفعله دينا ( بفتح الدال ) ودينا ( بكسرها ) جزيته ، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي ، وفي الحديث : ( الكيس من دان نفسه ) أي حاسب . وقيل : القضاء ، وروي عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة :
لعمرك ما كانت حَمُولة{[92]} معبد *** على جُدّها{[93]} حربا لدينِك من مُضَرْ
ومعاني هذه الثلاثة متقاربة . والدين أيضا : الطاعة ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ *** عصينا المَلْك فيها أن ندِينا
قال ثعلب : دان الرجل إذا أطاع ، ودان إذا عصى ، ودان إذا عز ، ودان إذا ذل ، ودان إذا قهر ، فهو من الأضداد . ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال :
كَدِينك من أمِّ الحُوَيْرِثِ قبلها
تقول إذا دَرَأتُ لها وضِينِي{[94]} *** أهذا دينُه أبدا وديني
والدين : سيرة الملك . قال زهير :
لئن حللتَ بجوّ في بني أسد *** في دين عمرو وحالت بيننا فَدَك{[95]}
أراد في موضع طاعة عمرو . والدين : الداء عن اللحياني . وأنشد :