. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله تعالى : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }
يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً ، أوْ بَدَلاًَ ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مُشْتَقٌّ من " المَلْك " - بفتح الميم - وهو : الشَّدُّ والرَّبْطُ ، قال الشاعرُ في ذلك : [ الطويل ]
49 - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا- *** -يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا{[214]}
ومنه : إِمْلاَكُ العَرُوسِ ؛ لأنّه عَقْدٌ ، ورَبْطٌ ، لِلنِّكَاحِ .
وقُرِئََ{[215]} : " مَالِك " بالألَفِ .
قال الأَخْفَش{[216]} - رحمه الله تعالى - يُقال : مَلِك بَيِّنُ المُلْكِ - بضم الميم ، و " مَالِك " من " الِمَلْكِ " بفتح الميم وكسرها .
ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى .
وروي عن العربِ : " لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ " مُثَلَّثُ الفاء ، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ :
فالمفْتُوحُ : الشَّدُّ والرَّبْط .
والمضْمُومُ : هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطاعَةُ ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه ، والمقصور : هو التّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه ، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه .
وقال الرَّاغِبُ{[217]} : المِلْكُ أي " بالكَسْرِ " كالجِنْسُ للملك ، أَي " بالضَّم " فكُلُّ مِلْكٍ " بالكسر " ملك ، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً ، فعلى هذا يكُونُ بينهما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك ، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنْ المُلْكِ بالضمِ ومالِكاً مأخوذ من المِلك " بالكَسْرِ " وقيل : إنَّ الفرقَ بينهما : أَنَّ المَلِكَ : اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة ، إِمَّا في نَفْسِه ، بِالتمكُّنِ مِنْ زمامِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا .
وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ .
وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَاءَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى ، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رحمه الله تعالى - أنه قال : إِذَا اخْتَلفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السّبعةِ ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَاباً على إعراب في القرآنِ ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ ، فضَّلْتُ الأَقْوَى . نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في " اليَوَاقيت " .
قال أَبُو شَامَة{[218]} - رحمه الله : - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى ، وليْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِراءَتَيْنِ ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ ، وبهذه في رَكْعة ، ذكر ذلك عند قَوْلِه تعالى : مَالِك يَوْمِ الدِّين .
وَروَى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي ، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ{[219]} ، عَنْ أَبِي عَمْرو{[220]} : " مَلْكِ " بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً .
وقرأ الأَعْمَش{[221]} ، ومحمدُ بنُ السّميفع{[222]} ، وأَبُو عَبْد الملك{[223]} قاضي الجُنْد : " مَالِكَ " بنصب الكاف على النِّداءِ . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته : يا مالك يوم الدين ، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً ، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس{[224]} ، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ{[225]} بالأَلف وَرَفْعِ الكَاف ، على مَعْنَى : " هُوَ مَالِك " .
وقرأ أَبُو حَيْوَة شُرَيح بنُ يَزيد{[226]} : برفع الكافِ مِنْ غَيْر أَلِف .
وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر{[227]} " مالك " بالإمالة والإضجاع البليغ . وقرأ أَيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ : بَيْنَ الإِمَالةِ والتّفْخِيمِ ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي{[228]} .
وقرأ الحَسَنُ { مَلَك يَوْمَ الدِّين } على الفِعْلِ ، وهو اختيارُ أَبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة ، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة " مَالِكِ " أَنَّها أمْدَحُ ؛ لعُمُومِ إضافَتِه ، إِذْ يُقالُ : " مَالِكُ الجِنِّ ، والإِنْسِ ، والطَّيرِ " ولا يُقالُ : " مَلِك الطّيْرِ " ، وأنشدوا على ذلك : [ الكامل ]
50 - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [ الوُجُوهُ ]{[229]} لِوَجْهِهِ- *** -مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ{[230]}
وقالُوا : فُلاَنُ مَالِك كَذَا ، لِمَنْ يَمْلِكُه ، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو : " مَلِكِ العَرَب ، والعَجَمِ " ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُلُّ على الزيادَةِ في المعنى ، كما تقدم في " الرحمن " ولأَنَّ ثواب تَالِيها أَكثرُ من ثَوابِ تَالِي " مَلِك " .
ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ " مَلِكِ " ما حكاه الفَارسِيّ{[231]} ، عن ابن السّرَّاجِ{[232]} ، عَنْ بَعْضِهم : أنه وصف [ نَفْسَه ]{[233]} بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ ، بقوله : " رَبِّ العَالَمِينَ " ، فلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ " مَالِكِ " ؛ لأنها تَكْرَارٌ .
قال أَبُو عَليٍّ : ولا حُجَّةَ فِيه ؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ ، يَذْكُرُ العَامَُّ ، ثُمَّ الخَاصُّ ؛ نحو :{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ }[ الحشر : 24 ] .
وقال أَبُو حَاتم{[234]} : " مَالِكِ " أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ ، و " مَلِكِ " أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ ، والفرق بَيْنَهُمَا : أَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [ أيضاً ]{[235]} واختاره ابنُ العَرَبيِّ .
ومِنْهَا : أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للمملوكِ وغَيْرِ المَمْلُوكِ ، بخلاف " مَالِكِ " فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم ، ولإشْعَارِه بالكثرةِ ، ولأنه تَمدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - " مَالِكِ المُلْكِ " ، وبقوله تعالى :{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ }[ آل عمران : 26 ] ، ومَلِكٌ مأخوذٌ منه [ كما تقدّم ، ولم يتمدح ب " مالك المِلْك " بكسر الميم الذي " مالك " مأخوذ منه ]{[236]} .
وقال قَوْمٌ : " مَعْنَاهُمَا : واحِدٌ ؛ مثلُ : فَرِهِين وفَارِهِين ، وحَذِرِين وحَاذِرِين " .
ويُقالُ : المَلِكِ والمالِكِ : هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود ، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى .
وجمع " مَالِكِ " : مُلاَّك ومُلَّك ، وجَمْعُ " مَلِك " : أَمْلاَك ومُلُوك .
وقُرِئ{[237]} : " مَلْك " بسكون اللاّم ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
51- وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طوَالٍ *** عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا{[238]}
كما يُقالُ : فَخِذٌ وفَخْذٌ ، وجَمْعُه على هذا : أَمْلُك ومُلُوك ، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله .
52 - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا- *** -قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا{[239]}
و " مَلَكي " بالإشْبَاعِ ، وتُرْوَى عن نَافِع{[240]} - رحمه الله - .
إذا عُرِفَ هذا فيكونُ " مَلِك " نعتاً لله - تعالى - ظاهراً ، فإنه معرفة بالإضافة .
وأما " مَالِك " فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضِيّ ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً ؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة{[241]} فيتعرَّفُ بها ، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ{[242]} : { مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ } فجعل " مَلَك " فِعْلاً مَاضِياً ، وإن أُرِيد به الحالُ ، أو الاستقبالُ [ فَيُشْكِلُ ؛ لأنه : إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله ، ولا يجوزُ ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفَاعِلِ بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ]{[243]} غَيْرُ محضةٍ{[244]} ، فلا يُعرف{[245]} ، وإذا لم يتعرّفْ ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ ؛ لما عرفت فيما تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً .
وإِمَّا أنْ يُجعَلَ بَدَلاً ، وهو ضَعيفٌ ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم .
والذي يَنْبَغِي أَنْ يُقالَ : إنه نعتٌ على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبرٍ ؛ لأَنّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقْييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ ، ولاَ اسْتِقبالٍ ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمه الله تعالى .
وإضافَةُ " مَالِكِ " و " مَلِكِ " إلى " يَوْمِ الدِّينِ " مِنْ بابِ الاتِّساعِ ؛ إذْ متعلّقُهما غيرُ اليومِ ، والتقديرُ : مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ .
ونظيرُ إِضَافَةِ " مَالِكٍ " إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ " طَبّاخٍ " إلى " ساعات " في قول الشاعر : [ الرجز ]
53 - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ- *** -طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ{[246]}
إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو " زادَ الكَسِلْ " ، وفي الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ ؛ للدلاَلةِ علَيه .
ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [ على ظاهِرِه ]{[247]} من غيرَ تَقْديرِ حَذْفٍ .
ونسْبَةُ " المِلْك " و " المُلْك " إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلَةٍ ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرأ : { مَلَكَ يَوْمَ الدّين } فِعْلاً ماضياً ، فإن ظاهِرَهَا كونُ " يَوْمَ " مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى " اللامِ " ، لأَنَّها الأصل .
ومِنْهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى " في " مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِه تبارك وتعالى :{ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] قال{[248]} : المعنى " مَكْرٌ في اللَّيْلِ " إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه .
والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ : إِمَّا على معنى " اللامِ " وإما على مَعْنى [ مِنْ ]{[249]} ، وكونُها بمعنى " في " غَيْرُ صَحِيحٍ .
وأَمَّا قولُه تعالى : " مَكْرُ اللَّيْلِ " فلا دَلاَلَةَ فِيه ؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما ؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ : نَهَارُهُ صَائِم ، ولَيْلُهُ قَائِم ؛ وقول الشاعر في ذلك البيت : [ البسيط ]
54 - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وَسِلْسِلَةٍ- *** -وَاللَّيْلُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ{[250]}
لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك ، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ .
و " اليَوْمُ " لُغَةً : القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ ، أيَِّ زَمَنٍ كَان مِنْ لَيْلٍ وَنَهار ؛ قال اللهُ تبارك وتعالى :{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ }[ القيامة :29 و30 ] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى ، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار . وأما في العُرْف : فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس .
وقال الرَّاغِبُ : " اليوم " يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [ غُرُوبِها ]{[251]} .
وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَومِ ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعَةِ ، قال تبارك وتعالى :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }[ المائدة : 3 ] ، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليوم ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمُ ؛ كما يُقالُ : لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ . ذكره القُرْطُبِيُّ رحمه الله تعالى . و " الدِّينِ " مضافٌ إِلَيه أَيْضاً ، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ ؛ ومنه قولُ الشاعر : [ الهزج ]
55 - وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا- *** -نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا{[252]}
أي : جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا .
وقال آخَرُ في ذلك : [ الكامل ]
56 - وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ- *** -وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ{[253]}
57 - إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْناهُمُ- *** -وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا{[254]}
58 - حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّما- *** -يُدانُ [ الفَتَى ]{[255]} يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ{[256]}
وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدِّيُّ : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ ؛ قال تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ التوبة : 36 ] . أي : الحسابُ المستقيمُ .
وقال قَتَادَةُ : " الدِّين : الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً " .
وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي{[257]} : " مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ، يوم{[258]} لا ينفعُ فيه إلاّ الدِّين " .
وقيل : الدين القَهْرُ : يُقالُ : دِنْتُهُ فَدَانَ أي : قَهَرْتُهُ فذلّ .
وقيل : الدينُ الطاعَةُ ؛ ومنه : " وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً " ، أَيْ : طَاعَةً ، وله مَعَانٍ أُخَرُ : العادَةُ ؛ كقولِه هذا البيت : [ الطويل ]
59 - كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرثِ قَبْلَهَا- *** -وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ{[259]}
أَيْ : كَعَادَتِكِ . ومثله : [ الوافر ]
60 - تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي- *** -أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدِينِي{[260]}
ودَانَ : عَصَى وأطاعَ : وذَلَّ وعَزَّ ، فهو من الأضدَادِ [ قاله ثعلب ]{[261]} .
والقضاءُ ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى :{ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [ النور : 2 ] ، أَيْ : في قَضَائِهِ وحُكْمِه .
والحَالُ ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال : " لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه ، لأَجَبْتُكَ " ، أَيْ : على حَالَةٍ .
والدَّاءُ ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك : [ البسيط ]
61 - يَا دِينَ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا{[262]}- *** -
ويُقالُ : دِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ : جَازَيْتُه .
ويُسْتعارُ للملّة والشريعَةِ أيضاً ؛ قال اللهُ تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ }[ آل عمران :83 ] ، يَعْنِي : الاسلامَ ؛ بدليلِ قَوْلِه تَعَالَى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
ويُقَالُ : دِينَ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ ، ومنه قِيل للعبدِ : مَدِين ، ولِلأَمَةِ : مَدِينَة .
وقِيل : هو من دِنْتُهُ : إذا جازيته بطاعته ، وجعل بعضُهم " المَدِينَة " مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ{[263]} ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِنْ شاء اللهُ تعالى .
وإنما خُصَّ " يوم الدين " بالذكر مع كونِه مالِكاً للأيّام كُلِّها ؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة ، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه ؛ قال الله تعالى :{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }[ الفرقان : 26 ] ، وقال :{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[ غافر : 16 ] ، وقال تعالى : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ }[ الانفطار : 19 ] .
قرأ أَبُو عَمْرو{[264]} - رحمه الله تعالى : - " الرَّحِيم ملك " بإدغام المِيمِ في الميم ، وكذلك يُدْغِمُ كُلَّ حَرْفَينِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مَخْرج واحد ، أو [ كانا ]{[265]} قرِيبَي المَخْرج ، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً ، إِلاّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً ، أَوْ مُنَوَّناً ، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً ، أَوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين ، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإِدغَامِ الكَبيرِ ، وافَقه حَمْزَة{[266]} من إدغام المتحركِ في قوله تعالى : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } [ النساء : 81 ] { وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } [ الصافات : 1 و 2 و 3 ] ، { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] .
وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء{[267]} ، وخَلَف{[268]} ، والكِسَائِي [ في إدغام الساكن وهو إدغام الساكن في المتحرك ]{[269]} إِلاَّ في الراءِ عند اللام ، والدال عند الجيم ، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي ، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة .
قال ابنُ الخَطِيب{[270]} : قالتِ القدريَّةُ : إن كان خَالِقُ أَفْعالِ العبادِ ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب ، والعقاب ، والجزاءِ ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث ، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ ، وعلى هَذا التقديرِ ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين .
وقالت الجبريةُ : لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه ، لم يكن مالكاً لها ، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد ، ولأعمالِهم ، عَلِمْنَا أَنَّهُ خالقٌ لها مقدرٌ لَهَا .