وهذه الأمم التي يقص الله - سبحانه - من أنبائها على رسوله [ ص ] ومن وراءه من أمته . . لم تفد من الشدة شيئا . لم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد . . وهنا يملي لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء :
( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين )
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيرا . . وفي الحديث : " عجبًا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " [ رواه مسلم ] .
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . . فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . .
والتعبير القرآني : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول ؛ بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة !
إنه مشهد عجيب ؛ يرسم حالة في حركة ؛ على طريقة التصوير القرآني العجيب .
( حتى إذا فرحوا بما أوتوًا ) . .
وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ؛ واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ؛ وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ؛ وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . . عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل :
( أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون ) . .
فكان أخذهم على غرة ؛ وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . واذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم .
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي : فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون ، وهذا{[10684]} استدراج منه تعالى وإملاء لهم ، عياذا بالله من مكره ؛ ولهذا قال : { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } أي : من الأموال والأولاد والأرزاق { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } أي : على غفلة { فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } أي : آيسون من كل خير .
قال الوالبي ، عن ابن عباس : المبلس : الآيس .
وقال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به ، فلا رأي له . ومن قَتَر عليه فلم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له ، ثم قرأ : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة ؛ أعطوا حاجتهم ثم أخذوا . رواه ابن أبي حاتم .
وقال قتادة : بَغَت القومَ أمرُ الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعيمهم{[10685]} فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون . رواه ابن أبي حاتم أيضًا .
وقال مالك ، عن الزهري : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } قال : إرخاء{[10686]} الدنيا وسترها .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدِين - يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري - عن حَرْمَلَة بن عمران التُّجِيبي ، عن عُقْبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ ، فإنما هو اسْتِدْرَاج " . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ }
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث حَرْمَلة وابن لَهِيعة ، عن عقبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، به{[10687]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّىَ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوَاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا . كالذي :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ يعني : تركوا ما ذَكّروا به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا قال : الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ قال : ما دعاهم الله إليه ورسلِهِ ، أبوه وردّوه عليهم .
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ يقول : بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام استدراجا منّا لهم . كالذي :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ قال : رخاء الدنيا ويسرها على القرون الأولى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ قال : يعني الرخاء وسعة الرزق .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط . عن السدّي ، قوله : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ يقول : من الرزق .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ وقد علمت أن باب الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم ، وأبواب أخر غيره كثيرة ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت من معناه ، وإنما معنى ذلك : فتحنا عليهم استدراجا منا لهم أبواب كلّ ما كنا سددنا عليهم بابه عند أخذنا إياهم بالبأساء والضرّاء ، ليتضرّعوا ، إذ لم يتضرّعوا وتركوا أمر الله . لأن آخر هذا الكلام مردود على أوله ، وذلك كما قال تعالى في موضع آخر من كتابه : ومَا أرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إلاّ أخَذْنا أهْلَها بالبأْساءِ والضرّاءِ لَعَلّهُمْ يَتَضرّعُونَ ثُمّ بَدّلْنَا مَكَان السّيّئَةِ الحَسَنَةَ حتى عَفَوْا وقالُوا قَدْ مَسّ آباءَنَا الضّرّاءُ والسّرّاءُ فَأخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الاَية ( أنهم نسوا ما ) ذكرهم بقوله : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ هو تبديله لهم مكان السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة ، ومن الضرّ في الأجسام إلى الصحة والعافية ، وهو فتح أبواب كلّ شيء كان أغلق بابه عليهم مما جرى ذكره قبل قوله : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ فرد قوله : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيُءٍ عليه . ويعني تعالى بقوله : حتى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُتُوا يقول : حتى إذا فرح هؤلاء المكذّبون رسلهم بفتحنا عليهم أبواب السعة في المعيشة والصحة في الأجسام . كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : حتى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا من الرزق .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي ، يحدث عن حماد بن زيد ، قال : كان رجل يقول : رحم الله رجلاً تلا هذه الاَية ثم فكر فيها ماذا أريد بها : حتى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا ابن أبي رجاء من أهل الثغر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن محمد بن النضر الحارثي ، في قوله : أخَذْناهُمْ بَغْتَةً قال : أمهلوا عشرين سنة .
ويعني تعالى ذكره بقوله أخَذْناهُمْ بَغْتَةً أتيناهم بالعذاب فجأة وهم غارّون لا يشعرون أن ذلك كائن ولا هو بهم حال . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : حتى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً قال : أعجب ما كانت إليهم وأغرّها لهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أخَذْناهُمْ بَغْتَةً يقول : أخذهم العذاب بغتة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أخَذْناهُمْ بَغْتَةً وقال : فجأة آمنين .
وأما قوله : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فإنهم هالكون ، منقطعة حججهم ، نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلهم . كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ قال : فإذا هم مهلكون متغير حالهم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا شيخ ، عن مجاهد : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ قال : فإذا هم مهلكون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ قال : المبلسّ : الذي قد نزل به الشرّ الذي لا يدفعه ، والمبلس أشدّ من المستكين ، وقرأ : فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ وَما يَتَضَرّعُونَ وكان أوّل مرّة فيه معاتبة وتقيّة ، وقرأ قول الله : أخَذْناهُمْ بالبأْساء والضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ فَلَوْلا إذْ جاءَهُمْ بأسُنا تَضَرّعُوا حتى بلغ : وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ثم جاء أمر ليس فيه تقية ، وقرأ : حتى إذَا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فجاء أمر ليس فيه تقية ، وكان الأوّل لو أنهم تضرّعوا كشف عنهم .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن أبي شريح ضبارة بن مالك ، عن أبي الصلت ، عن حرملة أبي عبد الرحمن ، عن عقبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا رأَيْتَ اللّهَ يُعْطِي عَبْدَهُ فِي دُنْياه ، إنّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ » ثم تلا هذه الاَية : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ إلى قوله : والحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ .
وحّدث بهذا الحديث عن محمد بن حرب ، عن ابن لهيعة ، عن عقبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذَا رَأَيْتَ اللّهَ تَعالى يُعْطِي العِبادَ ما يَسْأَلُونَ على معَاصِيهِم إيّاهُ ، فإنّمَا ذلكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ » ثم تلا : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ . . . الاَية .
وأصل الإبلاس في كلام العرب عند بعضهم : الحزن على الشيء والندم عليه . وعند بعضهم : انقطاع الحُجة والسكوت عند انقطاع الحجة . وعند بعضهم : الخشوع ، وقالوا : هو المخذول المتروك ، ومنه قول العجاج :
يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْما مُكْرَسَا ***قالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسَا
فتأويل قوله : «وأبلسا » عند الذين زعموا أن الإبلاس : انقطاع الحجة والسكوت عنده ، بمعنى : أنه لم يحر جوابا . وتأوّله الاَخرون بمعنى الخشوع ، وترك أهله إياه مقيما بمكانه . والاَخرون : بمعنى الحزن والندم ، يقال منه : أبلس الرجل إبلاسا ، ومنه قيل لإبليس : إبليس .
قوله : { فلمّا نسوا ما ذُكِّروا به } عطف على جملة { قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان } . والنسيان هنا بمعنى الإعراض ، كما تقدّم آنفاً في قوله : { وتَنسون ما تشركون } [ الأنعام : 41 ] . وظاهرٌ تفرّع الترك عن قسوة القلوب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم . و ( ما ) موصولة ماصْدَقُها البأساء والضرّاء ، أي لمّا انصرفوا عن الفطنة بذلك ولم يهتدوا إلى تدارك أمرهم . ومعنى { ذُكِّروا به } أنّ الله ذكّرهم عقابه العظيم بما قدّم إليهم من البأساء والضرّاء . و ( لمَّا ) حرف شرط يدلّ على اقتران وجود جوابه بوجود شرطه ، وليس فيه معنى السببية مثل بقية أدوات الشرط .
وقوله : { فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء } جواب { لمّا } والفتح ضدّ الغلق ، فالغلق : سد الفرجة التي يمكن الاجتياز منها إلى ما وراءها بباب ونحوه ، بخلاف إقامة الحائط فلا تسمّى غلقاً .
والفتح : جعْل الشيء الحاجز غيرَ حاجز وقابلاً للحجز ، كالباب حين يفتح . ولكون معنى الفتح والغلق نسبيين بعضهما من الآخر قيل للآلة التي يمسك بها الحاجز ويفتح بها مِفتاحاً ومِغْلاقاً ، وإنّما يعقل الفتح بعد تعقّل الغلق ، ولذلك كان قوله تعالى : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } مقتضياً أنّ الأبواب المراد ها هنا كانت مغلقة وقت أن أخذوا بالبأساء والضرّاء ، فعلم أنّها أبواب الخير لأنّها التي لا تجتمع مع البأساء والضرّاء .
فالفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغمّ كقوله : { ولو أنّ أهل القُرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] . ومنه تسمية النصر فتحنا لأنّه إزالة غمّ القهر .
وقد جُعل الإعراض عمَّا ذُكّروا به وقتاً لفتح أبواب الخير ، لأنّ المعنى أنّهم لمّا أعرضوا عن الاتِّعاظ بنُذر العذاب رفعنا عنهم العذاب وفتحنا عليهم أبواب الخير ، كما صُرّح به في قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبّيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثمّ بدّلنا مكان السيّئة الحسنة حتّى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } [ الأعراف : 94 ، 95 ] .
وقرأ الجمهور { فتحنا } بتخفيف المثنّاة الفوقية . وقرأه ابن عامر ، وأبو جعفر ورُويس عن يعقوب بتشديدها للمبالغة في الفتح بكثرته كما أفاده قوله { أبوابَ كلّ شيء } .
ولفظ ( كلّ ) هنا مستعمل في معنى الكثرة ، كما في قول النابغة :
بها كلّ ذيَّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد
أو استعمل في معناه الحقيقي ؛ على أنَّه عامّ مخصوص ، أي أبواب كل شيء يبتغونه ، وقد علم أنّ المراد بكلّ شيء جميع الأشياء من الخير خاصّة بقرينة قوله : { حتى إذا فرحوا } وبقرينة مقابلة هذا بقوله : { أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء } [ الأعراف : 79 ] ، فهنالك وصف مقدّر ، أي كلّ شيء صالح ، كقوله تعالى : { يأخذ كلّ سفينة غصبا } [ الكهف : 79 ] أي صالحة .
و { حتّى } في قوله : { حتَّى إذا فرحوا } ابتدائية . ومعنى الفرح هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم ، كما في قوله تعالى : { إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين } [ القصص : 76 ] . قال الراغب : ولم يرخّص في الفرح إلاّ في قوله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] . و ( إذا ) ظرف زمان للماضي .
ومراد الله تعالى من هذا هو الإمهال لهم لعلّهم يتذكّرون الله ويوحّدونه فتطهر نفوسهم ، فابتلاهم الله بالضرّ والخير ليستقصي لهم سببي التذكّر والخوف ، لأنّ من النفوس نفوساً تقودها الشدّة ونفوساً يقودها اللين .
ومعنى الأخذ هنا الإهلاك . ولذلك لم يذكر له متعلِّق كما ذكر في قوله آنفاً { فأخذناهم بالبأساء والضرّاء } للدلالة على أنَّه أخذ لا هوادة فيه .
والبغتة فعلة من البغْت وهو الفُجأة ، أي حصول الشيء على غير ترقّب عند من حصل له وهي تستلزم الخفاء . فلذلك قوبلت بالجهرة في الآية الآتية . وهنا يصحّ أن يكون مؤوّلاً باسم الفاعل منصوباً على الحال من الضمير المرفوع ، أي مباغتين لهم ، أو مؤوّلاً باسم المفعول على أنَّه حال من الضمير المنصوب ، أي مبغوتين ، { وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] .
وقوله : { فإذا هم مبلسون } ( إذا ] فجائية . وهي ظرف مكان عند سيبويه ، وحرف عند نحاة الكوفة .
والمبلسون اليائسون من الخير المتحيّرون ، وهو من الإبلاس ، وهو الوجوم والسكوت عند طلب العفو يأساً من الاستجابة .