{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : أفيستوي من شرح اللّه صدره للإسلام ، فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها ، منشرحا قرير العين ، على بصيرة من أمره ، وهو المراد بقوله : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } كمن ليس كذلك ، بدليل قوله : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي : لا تلين لكتابه ، ولا تتذكر آياته ، ولا تطمئن بذكره ، بل هي معرضة عن ربها ، ملتفتة إلى غيره ، فهؤلاء لهم الويل الشديد ، والشر الكبير .
{ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه ؟ ومن كل السعادة في الإقبال عليه ، وقسا قلبه عن ذكره ، وأقبل على كل ما يضره ؟ "
{ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }
تفريع على ما تقدم من قوله : { لكِن الذين اتقوا ربهم لهم غرفٌ } [ الزمر : 20 ] وما ألحق به من تمثيل حالهم في الانتفاع بالقرآن فُرع عليه هذا الاستفهام التقريري .
و ( مَن ) موصلة مبتدأ ، والخبر محذوف دل عليه قوله : { لكِن الذينَ اتَّقوا ربَّهُم } مما اقتضاه حرف الاستدراك من مخالفة حالة لحال من حق عليه كلمة العذاب .
والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه مِثل الذي حقّ عليه كلمة العذاب فهو في ظلمة الكفر ، أو تقديره : مثل من قسا قلبه بدلالة قوله : { فَوَيلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهم } ، وهذا من دلالة اللاحق .
وشرحُ الصدر للإِسلام استعارة لقبول العقل هديَ الإِسلام ومحبّته . وحقيقة الشرح أنه : شق اللحم ، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والإطلاع على ما تحت ذلك . ولما كان الإِنسان إذا تحير وتردد في أمر يجدّ في نفسه غماً يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تَأثره في انضغاط نَفَسه حتى يصير تنفسه عسيراً ويكثر تنهده وكان عضو التنفس في الصدر ، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا : ضاق صدره ، قال تعالى عن موسى : { ويضيق صدري } [ الشعراء : 13 ] ، وقالوا : انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك : شرح الله صدره ، وجمع بينهما قوله تعالى : { فمن يرد اللَّه أن يهديه يشرحْ صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء } في سورة [ الأنعام : 125 ] ، ومنه قولهم : فلان في انشراح ، أي يحس كأن صدره شُرح ووُسع .
ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة { شَرح } للدلالة على قبول الإِسلام لأن تعاليم الإِسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافاً للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راججٍ رحمة ربه في الدنيا والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره .
فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالةَ الشرك إن اجتنبَ عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأَمته وماشيته ونخِله ، فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإِسلام ، ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة ، ولا ينطوي باطنه على غلّ ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً ، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر ، واستغنى بالقناعة عَن الضراعة إلا إلى الله تعالى ، وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله .
وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره ، وإذا مسته نعمة حمد ربه وترقب المزيد ، فكان صدره منشرحاً بالإِسلام متلقياً الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس .
واللام في { للإسْلامِ } لام العلة ، أي شرحه لأجل الإِسلام ، أي لأجل قبوله . وفرع على أن شرح الله صدره للإسلام قوله تعالى : { فهُوَ على نُورٍ من ربِّهِ } فالضمير عائد إلى { مّن } .
والنور : مستعار للهدى ووضوح الحق لأن النور به تنجلي الأشياء ويخرج المبصر من غياهب الضلالة وتردد اللبس بين الحقائق والأشباح .
واستعيرت { على } استعارةً تبعية أو تمثيلية للتمكن من النور كما استعيرت في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] على الوجهين المقررين هنالك . و { مّن ربِّهِ } نعت ل { نور } و من ابتدائية ، أي نور موصوف بأنه جاء به من عند الله فهو نور كامل لا تخالطه ظلمة ، وهو النور الذي أضيف إلى اسم الله في قوله تعالى : { يهدي اللَّه لنوره من يشاء } في سورة [ النور : 35 ] .
{ فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِى ضلال مبين }
فُرع على وصف حال من شرحَ الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه ، ما يدل على حال ضده وهم الذين لم يشرح الله صدورهم للإِسلام فكانت لقلوبهم قساوة فُطِروا عليها فلا تسلك دعوة الخير إلى قلوبهم . وأُجمل سوء حالهم بما تدل عليه كلمة { ويل } من بلوغهم أقصى غايات الشقاوة والتعاسةِ ، وقد تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } في سورة [ البقرة : 79 ] .
والقاسي : المتصف بالقساوة في الحال ، وحقيقة القساوة : الغلظ والصلابة في الأجسام ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } [ البقرة : 74 ] . وقسوة القلب : مستعارة لقلة تأثّر العقل بما يُسدى إلى صاحبه من المواعظ ونحوها ، ويقابل هذه الاستعارة استعارة اللين لسرعة التأثر بالنصائح ونحوها ، كما سيأتي في قوله تعالى : { ثُمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلوبُهم } [ الزمر : 23 ] .
و { مِن } في قوله : { مّن ذِكرِ الله } يجوز أن تكون بمعنى ( عن ) بتضمين { القاسية } معنى المعرضة والنافرة ، وقد عدّ مرادف معنى ( عن ) من معاني { مِن ، واستُشهد له في مغني اللبيب } بهذه الآية وبقوله تعالى : { لقد كنت في غفلة من هذا } [ ق : 22 ] ، وفيه نظر ، لإِمكان حملهما على معنيين شائعين من معاني { مِن وهما معنى التعليل في الآية الأولى كقولهم : سقاهم من الغيْمة ، أي لأجل العطش ، قاله الزمخشري . وجعل المعنى : أن قسوة قلوبهم حصلت فيهم من أجل ذكر الله ، ومعنى الابتداء في الآية الثانية ، أي قست قلوبهم ابتداء من سماع ذكر الله . والمراد بذكر الله القرآن وإضافته إلى الله زيادة تشريف له . والمعنى : أنهم إذا تليت آية اشمأزّوا فتمكن الاشمئزاز منهم فقست قلوبهم .
وحاصل المعنى : أن كفرهم يحملهم على كراهية ما يسمعونه من الدعوة إلى الإِسلام بالقرآن فكلما سمعوه أعرضوا وعاندوا وتجددت كراهية الإِسلام في قلوبهم حتى ترسخ تلك الكراهية في قلوبهم فتصير قلوبهم قاسية .
فكان القرآن أن سبب اطمئنان قلوب المؤمنين قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللَّه ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] . وكان سبباً في قساوة قلوب الكافرين . وسبب ذلك اختلاف القابلية فإن السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلاف القابلية ، وإنما تعرف خصائص الأشياء باعتبار غالب آثارها في غالب المتأثرات ، فذِكر الله سبب في لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر ، فإذا حلّ فيها هذا المرض صارت إذا ذكر الله عندها أشد مرضاً مما كانت عليه .
وجملة { أُولئِكَ في ضلالٍ مُبينٍ } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما قبله من الحكم بأن قساوة قلوبهم من أجل أن يذكر الله عندهم يثير في نفس السامع أن يتساءل : كيف كان ذكر الله سبب قساوة قلوبهم ؟ فأفيد بأن سبب ذلك هو أنهم متمكنون من الضلالة منغمسون في حَمْأتها فكان ضلالهم أشدّ من أن يتقشع حين يسمعون ذكر الله .
وافتتاح هذه الجملة باسم الإِشارة عقب ما وصفوا به من قساوة القلوب لإِفادة أن ما سيذكر من حالهم بعد الإِشارة إليهم صاروا به أحرياء لأجل ما ذكر قبل اسم الإِشارة كما تقدم في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة { البقرة : 5 ] ، فكان مضمون قوله : { أولئك في ضلالٍ مبينٍ } وهو الضلال الشديد علة لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه وقوع جملته استئنافاً بيانياً . وكان مضمونها مفعولاً لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه تصدير جملتها باسم الإِشارة عقب وصف المشار إليهم بأوصاف . .
وكذلك شأن الأعراض النفسية أن تكون فاعلة ومنفعلة باختلاف المثار وما تتركه من الآثار لأنها علل ومعلولات بالاعتبار لا يتوقف وجود أحد الشيئين منهما على وجود الآخر التوقف المسمى بالدور المعِيِّ .
والمبين : الشديد الذي لا يخفى لشدته ، فالمبين كناية عن القوة والرسوخ فهو يُبين للمتأمل أنه ضلال .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفمن فَسَح الله قلبه لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته "فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبّهِ "يقول: فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين، بتنوير الحقّ في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه، كمن أقسى الله قلبه، وأخلاه من ذكره، وضيّقه عن استماع الحق، واتّباع الهدى، والعمل بالصواب؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه، وجوابَ الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد من الكلام، إذ ذكر أحد الصنفين، وجعل مكان ذكر الصنف الآخر الخبر عنه بقوله: "فَوَيْلٌ للْقاسِيَةِ قُلُوبُهمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ"... عن قتادة، قوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبّهِ يعني: كتاب الله، هو المؤمن به يأخذ، وإليه ينتهي...
قوله: "فَوَيْلٌ للقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: فويل للذين جَفَت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت، يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى ذكره، مذكّرا به عباده، فلم يؤمن به، ولم يصدّق بما فيه. وقيل: "مِنْ ذِكْرِ اللّهِ" والمعنى: عن ذكر الله، فوضعت «من» مكان «عن»...
وقوله: "أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مُبين، لمن تأمّله وتدبّره بفهم أنه في ضلال عن الحقّ جائر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فيسلم {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} يجعل الله في صدره النور إذا أسلم حتى يبصر الحق وحججه وبراهينه بصورة الحق أنه حق، والباطل أنه باطل وأنه تمويه؛ يبصر كل شيء بذلك النور على ما هو حقيقة أنه حق وباطل، فيأخذ الحق ويعمل به، ويترك الباطل ويجتنبه.
ويحتمل أن يكون قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} يكون نوره هو إسلامه الذي هداه، شرح الله صدره بنوره حتى أسلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" فويل للقاسية قلوبهم "الويل والعقاب للذين قست قلوبهم "عن ذكر الله "حتى لم يعرفوه ولا وحدوه، يقال قسى الشيء إذا صلب، كما قال" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" والمعنى كلما تلي عليه ذكر الله قسى قلبه.
والقاسية قلوبهم هم الذين ألِفوا الكفر وتعصبوا له، فلذلك قست قلوبهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَمَن} عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقبله، كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسي القلب، ونور الله: هو لطفه...
وهو نظير قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} في حذف الخبر.
قرئ: «عن ذكر الله»... فإن قلت: ما الفرق بين من وعن في هذا؟ قلت: إذا قلت: قسا قلبه من ذكر الله، فالمعنى أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
شرح الصدر: استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله...
«النور» هداية الله تعالى، وهي أشبه شيء بالضوء...
«القسوة»: شدة القلب، وهي مأخوذة من قسوة الحجر، شبه قلب الكافر به في ضلالته وقلة انفعاله للوعظ، وقال مالك بن دينار: ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفمن شرح الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل.
{صدره للإسلام} أي للانقياد للدليل، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل.
{فهو} أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان {على نور} أي بيان عظيم بكتاب به يأخذ، وبه يعطي، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه، يصرفه حيث يشاء، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت القول إلى مظهر الإحسان فقال: {من ربه} أي المحسن إليه إحسانه في انقياده، فبشرى له فهو على صراط مستقيم، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً، فكان في الظلام خابطاً، فويل له -هكذا كان الأصل ولكن قيل: {فويل للقاسية قلوبهم} أي لضيق صدورهم، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال: {من ذكر الله} فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود.
ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى: {أولئك} أي الأباعد الأباغض {في ضلال مبين} أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف ضده...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
الشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التوسيع... وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعدة استعداداً تاماً للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول، وسهولة الحصول؛ وذلك بعد التجوز في الصدر، وإرادة النفس الناطقة منه من حيث أنه محل للقلب،وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان،
وقرئ {عَن ذِكْرِ الله} والمتواترة أبلغ لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبياً من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر؛ لأن توسعته وجعله محلاً للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وإفراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلاً عن القلب، وإسناده إلى الله تعالى الظاهر في أنه على أتم الوجوه؛ لأنه فعل قادر حكيم، وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق؛ لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلال الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل، وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها؛ للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى دواتهم، وأما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله، واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والإفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه:
{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وإن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعاً مختلفاً ألوانه كذلك ينزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية؛ فتتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة، وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة! والله يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير، ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء. والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد، وهذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به. وتصور حالها مع الله. حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة، والإشراق والاستنارة. كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها، وعتمتها وظلامها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
شرحُ الصدر للإِسلام استعارة لقبول العقل هديَ الإِسلام ومحبّته. وحقيقة الشرح أنه: شق اللحم، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والاطلاع على ما تحت ذلك.
ولما كان الإِنسان إذا تحير وتردد في أمر يجدّ في نفسه غماً يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تَأثره في انضغاط نَفَسه حتى يصير تنفسه عسيراً ويكثر تنهده، وكان عضو التنفس في الصدر، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا: ضاق صدره، قال تعالى عن موسى: {ويضيق صدري} [الشعراء: 13]، وقالوا: انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك: شرح الله صدره، وجمع بينهما قوله تعالى:
{فمن يرد اللَّه أن يهديه يشرحْ صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء} في سورة [الأنعام: 125]،ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة {شَرح} للدلالة على قبول الإِسلام؛ لأن تعاليم الإِسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافاً للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راجٍ رحمة ربه في الدنيا والآخرة، ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره. فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالةَ الشرك، إن اجتنبَ عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأَمته وماشيته ونخِله، فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإِسلام، ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة، ولا ينطوي باطنه على غلّ ولا حسد ولا كراهية في ذات الله، وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر، واستغنى بالقناعة عَن الضراعة إلا إلى الله تعالى، وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله...
وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره، وإذا مسته نعمة حمد ربه وترقب المزيد، فكان صدره منشرحاً بالإِسلام متلقياً الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس...
اللام في {للإسْلامِ} لام العلة؛ أي شرحه لأجل الإِسلام؛ أي لأجل قبوله. وفرع على أن شرح الله صدره للإسلام قوله تعالى: {فهُوَ على نُورٍ من ربِّهِ} فالضمير عائد إلى
النور: مستعار للهدى ووضوح الحق؛ لأن النور به تنجلي الأشياء ويخرج المبصر من غياهب الضلالة وتردد اللبس بين الحقائق والأشباح...
{فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِي ضلال مبين} فُرع على وصف حال من شرحَ الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه، ما يدل على حال ضده. وأُجمل سوء حالهم بما تدل عليه كلمة {ويل} من بلوغهم أقصى غايات الشقاوة والتعاسةِ، وحاصل المعنى: أن كفرهم يحملهم على كراهية ما يسمعونه من الدعوة إلى الإِسلام بالقرآن، فكلما سمعوه أعرضوا وعاندوا وتجددت كراهية الإِسلام في قلوبهم حتى ترسخ تلك الكراهية في قلوبهم فتصير قلوبهم قاسية، فذِكر الله سبب في لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر، فإذا حلّ فيها هذا المرض صارت إذا ذكر الله عندها أشد مرضاً مما كانت عليه...
التقدير هنا {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ..} كمن ضاق صدره عن الإسلام، إذن: لا بُدَّ أنْ نذكر هذا المقابل لأنهما لا يستويان {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ..} تدل على أننا أخذنا الضيق من القسوة، فالذي ضاق صدره عن الإسلام ضاق صدره لقسوة قلبه.
وهذه مثل قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] والمعنى: أهذا كمَنْ لم يقنت؟ وعليك أنت أنْ تجيب: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، كمَنْ قسا قلبُه وضاق صدره عن دين الله وهداية الله؟
ومعنى {شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ..} أي: جعل الضيق واسعاً، وتقول لصاحبك: وسّع صدرك يعني: اجعله مُتسعاً لمناقشة كل القضايا، ومن معاني سعة الصدر ألاَّ تشغله بالخزعبلات، وألاَّ تزحمه بالباطل، حتى يكون لك أُنْس به، وعندها يطرد الباطل الحق كما قلنا في مسألة الحيز.
فالحيز الواحد لا يتسع إلا لشيء واحد، فالماء مثلاً يطرد الهواء حين تملأ زجاجة بالماء.
ومن شَرْح الصدر أن يكون لديك عدالة اختيار حين تختار بين البدائل، عليك أن تصفي قلبك، وأن تُخرج منه كل ما يشغله، ثم تبحث القضايا المعروضة عليك، فما وجدته مناسباً تُدخِله قلبك ليستقر فيه حتى يصير عقيدةً راسخة لا تقبل المناقشة مرة أخرى، لأن الله تعالى خلق لنا حواسَّ تدرك: عينٌ ترى، وأذنٌ تسمع، ولسان ينطق.
وبهذا الحواس نأخذ المعلومات. ثم نعرضها على العقل ليختار منها ويبحث فيها، فما وجده صالحاً أسقطه في القلب، وهذه هي العقيدة التي تستقر في القلب، ولا تطفو لتُبحث من جديد.
لذلك احذر الران الذي يترسب على القلب حتى يغلقه، فلا يكون فيه مكان للحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذه المسألة في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً -وفي رواية: عَوْذاً عَوْذاً- فأيما قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تكون على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرباداً -وهذا الذي يقول الله فيه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]- كالكوز مُجخياً -منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً".
والفتن هنا هي الشُّبَه التي تعرض للناس في الدين، والرسول صلى الله عليه وسلم يشبهها بالحصير الذي يُنسج عوداً بجوار عود، حتى يكون كالحصيرة التي نجلس عليها، أو عَوْذاً يعني: نستعيذ بالله من هذه الفتن، أو عوْداً أي مرة بعد مرة.
إذن: إنْ أردتَ بحث قضية الإيمان فاشرح صدرك أولاً، ووسِّعه بأنْ تُخرج ما فيه من اعتقادات، لذلك يقول سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ..} والنور له مصادر، إما نور مادي كالشمس والقمر والنجوم، وهذه الأنوار التي اكتشفها الإنسان حديثاً، أو نور معنوي وهو المقصود هنا، نور القيم والمنهج {فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ..} أي: نور الهداية الذي عناه القرآن الكريم في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ..} [النور: 36-37]...
فالحق سبحانه أعطاكم النور الحسيِّ الذي يعينكم على حركة الحياة، ليرى الإنسانُ مواضع قدمه فلا يحطم الأشياء ولا تحطمه إذا ما اصطدم بها، والنور المعنوي للقيم وللروح...
وقوله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ويل لهم لأن قسوة قلوبهم حالتْ بينهم وبين الإيمان، فويل لهم ساعةَ يعرفون أن لهم ربّاً كفروا به، وتفاجئهم هذه الحقيقة التي طالما أنكروها.
وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه القضية في قوله سبحانه: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ..} [إبراهيم: 18].
والمعنى: أنهم حبطت أعمالهم وخاب سعيهم.
وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
فويل لهم ساعة يعرفون أنهم كفروا بالله وضاق صدرهم عن أن يتسع لنور الإيمان، فالويْل لهم حاضر قبل أنْ يأتيهم العقاب.
وقوله: {أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: بيِّن واضح، والضلال هو عدم الاهتداء في المهيع الذي يسير فيه، كالسائر مثلاً في صحراء وضلَّ فيها الطريق، إن ضلاله يبدأ بانحرافه عن الطريق الصحيح ولو بسنتيمترات، لأنها لا بدّ أنْ تنتهي به إلى مساحات شاسعة في الضلال... فالمعنى: {أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: لا يهتدون إلى شيء أبداً.