103- وإذا أتممتم صلاة الحرب التي تسمى صلاة الخوف فلا تنسوا ذكر الله دائماً ، فاذكروه قائمين محاربين واذكروه وأنتم قاعدون ، واذكروه وأنتم نائمون ، فإن ذكر الله - تعالى - يُقَوِّى القلوب ، وبه اطمئنانها ، فإذا ذهب الخوف وكان الاطمئنان ، فأدوا الصلاة متكاملة فإن الصلاة قد فرضت على المؤمنين موقوتة بأوقاتها .
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا }
أي : فإذا فرغتم من صلاتكم ، صلاة الخوف وغيرها ، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم ، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد . منها : أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه .
وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة ، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه .
ومنها : أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة . ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها .
ومنها : أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه ، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو ، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب .
ومنها : أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم .
وقوله : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة } أي : إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا ، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها .
{ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أي : مفروضا في وقته ، فدل ذلك على فرضيتها ، وأن لها وقتا لا تصح إلا به ، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ودل قوله : { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل ، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة ، ولا يؤمرون بها ، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم ، وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الأحكام في الآخرة .
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف ، على حد ما أمروا عند قضاء المناسك بذكر الله{[4264]} ، فهو ذكر باللسان ، وذهب إلى أن { قضيتم } بمعنى فعلتم ، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات : المرض ، وغيره ، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال : يصلي قاعداً فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن ، فإن لم يطق فعلى الأيسر ، فإن لم يطق فعلى الظهر ، ومذهب مالك في المدونة التخيير ، لأنه قال : فعلى جنبه أو على ظهره ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال : يبتدىء بالظهر ثم بالجنب ، قال ابن حبيب : وهو وهم ، قال اللخمي : وليس بوهم ، بل هو أحكم في استقبال القبلة ، وقال سحنون : يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره ، فإن لم يقدر فعلى ظهره ، و «الطمأنينة » في الآية : سكون النفس من الخوف ، وقال بعض المتأولين : المعنى : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً ، وقوله تعالى : { كتاباً موقوتاً } معناه : منجماً في أوقات ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي عن ابن عباس : أن المعنى مفروضاً ، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإذا قضيتم الصلاة}: صلاة الخوف، {فاذكروا الله} باللسان، {قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة}، إذا أقمتم في بلادكم فأقيموا الصلاة، يعني فأتموا الصلاة كاملة ولا تقصروا، {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}: فريضة معلومة...
{إِنَّ اَلصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُومِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} فكان الموقوت يحتمل موقوتا بالعدد وموقوتا بالوقت، فأبان رسول الله: أن الله جل ثناؤه فرض خمس صلوات. فقال رجل: يا رسول الله هل علي غيرها؟ قال: « لا، إلا أن تطوع». (الأم: 1/136. ون اختلاف الحديث ص: 489.)...
{إِنَّ اَلصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} فبين رسول الله عن الله تلك المواقيت، وصلى الصلوات لوقتها... أحكم الله عز وجل في كتابه أن فرض الصلاة موقوت، والموقوت ـ والله أعلم ـ الوقت الذي يصلى فيه، وعددها، فقال عز وجل: {إِنَّ اَلصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} وقد ذكرنا نقل العامة عدد الصلاة في مواضعها، ونحن ذاكرون الوقت. أخبرنا سفيان، عن الزهري قال: أخر عمر بن عبد العزيز الصلاة فقال له عروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نزل جبريل فأمني، فصليت معه، ثم نزل فأمني فصليت معه، ثم نزل فأمني فصليت معه حتى عد الصلوات الخمس» فقال عمر بن عبد العزيز: اتق الله يا عروة، وانظر ما تقول. فقال عروة: أخبرنيه بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...
أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمان [بن الحرث]، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أمني جبريل عند باب الكعبة مرتين، فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله، وصلى المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم صلى المرة الآخرة الظهر حين كان كل شيء قدر ظله قدر العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب القدر الأول لم يؤخرها، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين»... وبهذا نأخذ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فإذا فرغتم أيها المؤمنون من صلاتكم، وأنتم مواقفو عدوّكم التي بيناها لكم، فاذكروا الله على كلّ أحوالكم قياما وقعودا، ومضطجعين على جنوبكم بالتعظيم له، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوّكم، لعلّ الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيُتمْ فِئَةً فاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيرا لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}. عن ابن عباس قوله: {فاذْكُرُوا اللّهَ قِياما} يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البرّ والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرّ والعلانية، وعلى كلّ حال.
{فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ}: فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم، {فأقِيمُوا}: فأتموا {الصّلاةَ} التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا استقررتم فأقيموا الصلاة، أي فأتموا حدودها بركوعها وسجودها.
وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوّله: فإذا زال خوفكم من عدوّكم وأمنتم أيها المؤمنون واطمأنت أنفسكم بالأمن، فأقيموا الصلاة، فأتموها بحدودها المفروضة عليكم، غير قاصريها عن شيء من حدودها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره عرّف عباده المؤمنين الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين: إحداهما شدة حال خوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بينت من قصر حدودها عن التمام، والأخرى حال غير شدّة الخوف أمرهم فيها بإقامة حدودها، وإتمامها على ما وصفه لهم جلّ ثناؤه من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضا من عدوّهم وهي حالة لا قصر فيها، لأنه يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. فمعلوم بذلك أن قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحالة التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم فأقيموها، وتلك حالة شدة الخوف، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حال غير شدة الخوف بقوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ...}.
{إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا واجبا. وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا منجما يؤدونها في أنجمها. قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحجّ...
وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض، لأن ما كان مفروضا فواجب، وما كان واجبا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجم. غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة قول من قال: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا منجما، لأن الموقوت إنما هو مفعول من قول القائل: وَقَتَ اللّه عليك فرضه فهو يَقِتُهُ، ففرضُه عليك موقوت، إذا أخبر أنه جَعل له وقتا يجب عليك أداؤه. فكذلك معنى قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقوتا} إنما هو كانت على المؤمنين فرضا وقت لهم وقت وجوب أدائه، فبّين ذلك لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم}... يحتمل أن يكون معناه: إذا أردتم أن تفضلوا الصلاة {فاذكروا الله} كثيرا في أي حال كنتم: في حال القيام والركوع والسجود...
وقوله تعالى: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} هذا، والله أعلم، مقابل قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} الآية: (النساء: 101) و[...] القصر يحتمل وجوها؛ يحتمل القصر للضرب في الأرض، وهو القصر في عدد الركعات، ويحتمل للمرض والخوف، فهو قصر الإيماء، فنحن نأخذ بذلك كله على اختلاف الأحوال. فعلى ذلك قوله: {فإذا اطمأننتم} يحتمل الوجوه التي ذكرنا: أي إذا اطمأننتم: صرتم أصحاء، فصلوا كذا صلاة الأصحاء. ويحتمل: {فإذا اطمأننتم} أمنتم من الخوف فصلوا كذا. ويحتمل أيضا {فإذا اطمأننتم} إذا رجعتم، وأقمتم، صلوا صلاة المقيمين أربعا...
معنى قوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي لم تزل كما كانت {كتابا موقوتا} على الأمم السالفة لأن هذه الأمة خصت بها كقول إبراهيم عليه السلام: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذرتي} (إبراهم: 40) وقول عيسى عليه السلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة} (مريم: 31)، وقول موسى عليه السلام: {واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة} (يونس: 87). ويحتمل قوله تعالى: {كانت} صارت {على المؤمنين كتابا موقوتا} بعد أن لم تكن...
الذكر الذي في قوله تعالى: {فإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ}[...] ليس هو الصلاة، ولكنه على أحد وجهين: إما الذكر بالقلب، وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خَلْقِهِ وصُنْعِهِ من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه. والذكر الثاني: الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس. والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلةً. والدليل على أنه لم يُرِدْ بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى: {فإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِكُمْ}...
قال الله تعالى: {إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}...
قال أبو بكر: قد انتظم ذلك إيجابَ الفرض ومواقيته؛ لأن قوله تعالى: {كِتَاباً} معناه، فرضاً، وقوله: {مَوْقُوتاً} معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة، فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبيّنها في مواضع أُخَرَ من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها، وبَيَّن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم تحديدها ومقاديرها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ} يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} يعني فصلوا لله {قِيَاماً} للصحيح {وَقُعُوداً} للسقيم {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس،... {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} يعني صلاة الخوف والمرض والقتال، ورجعتم إلى منازلكم {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} أي أتموا الصلاة أربعاً {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} أي واجباً مفروضاً في الحضر والسفر، فركعتان في السفر وأربع في الحضر، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الوظائف الظاهرة مُوَقته وحضور القلب بالذكر مسرمد غير منقطع؛ أمَّا بالرسوم فوقتاً دون وقت... الذكرُ كيفما كنتم وكما كنتم، وأما الصلاةُ فإذا اطمأننتم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فإذا اطمأننتم): فإذا سكنتم وأقمتم وأمنتم...
ثم قال تعالى: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين:
أولهما: بيان القصر وهو صلاة السفر.
والثاني: صلاة الخوف، ثم إن قوله {فإذا اطمأننتم} يحتمل نقيض الأمرين، فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافرا بل يصير مقيما، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة، ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب، بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها، ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيآتها، ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر، ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي فرضا مؤقتا، والمراد بالكتاب هاهنا المكتوب كأنه قيل: مكتوبة موقوتة، ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعول والمصدر مذكر، ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات مؤقتة، يقال: وقته ووقته مخففا، وقرئ {وإذا الرسل أقتت} بالتخفيف.
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدر بأوقات مخصوصة، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات هاهنا وبينها في سائر الآيات، وهي خمسة:
أحدها: قوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فقوله {الصلوات} يدل على وجوب صلوات ثلاثة، وقوله {والصلاة الوسطى} يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار، فلابد وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة، وإلا لم يحصل فيها وسطى، فلابد من جعلها خمسة لتحصل الوسطى، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة، فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها.
وثانيها: قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرآن الفجر} فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتا واحدا وللمغرب والعشاء وقتا واحدا.
وثالثها: قوله سبحانه {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح، ثم قال {وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} فقوله {وعشيا} المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء، وقوله {وحين تظهرون} المراد الصلاة الواقعة في محض النهار، وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله {حين تمسون وحين تصبحون} صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فكذلك قدم في قوله {وعشيا وحين تظهرون} صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية، وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله {والعصر} تشريفا لها بالإفراد بالذكر.
ورابعها: قوله تعالى: {وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من اليل} فقوله {طرفى النهار} يفيد وجوب صلاة الصبح ووجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني. وقوله {وزلفا من اليل} يفيد وجوب المغرب والعشاء، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال: لأن الزلف جمع، وأقله ثلاثة، فلابد وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملا بقوله {وزلفا من اليل} وخامسها: قوله تعالى {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءاناء اليل فسبح} فقوله {قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} إشارة إلى الصبح والعصر، وهو كقوله {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل} وقوله {ومن ءاناء اليل} إشارة إلى المغرب والعشاء، وهو كقوله {وزلفا من اليل} وكما احتجوا بقوله {وزلفا من اليل} فكذلك احتجوا عليه بقوله {ومن ءاناء اليل} لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس.
واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرا إلى المعقول، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة:
أولها: مرتبة الحدوث والدخول في الوجود، وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشوء والنماء إلى مدة معلومة، وهذه المدة تسمى سن النشوء والنماء.
والمرتبة الثانية: مدة الوقوف، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب.
والمرتبة الثالثة: مدة الكهولة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصان خفي، وهذه المدة تسمى الكهولة.
والمرتبة الرابعة: مدة الشيخوخة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة.
المرتبة الخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدة، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانا أو غيره من الحيوانات أو النباتات، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس، وذلك لأنها حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقصانات خفية إلى وقت العصر، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكرا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيما للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة، وهو النقصان الخفي، ثم لما انقضت مدة الكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر. ونعم ما قال الشافعي رحمه الله: أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه، وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء، ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية، والله أعلم بأسرار أفعاله.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإذا قضيتم الصلاة} أي أديتموها وأتممتوها في حال الخوف كما بينا لكم من القصر منها، وهو كقوله {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة:10] وقوله {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة:200] {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} أي اذكروه في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا وإعداد الثواب والرضوان في الآخرة، وإن ذلك جزاؤهم عنده ما داموا مهتدين بكتابه، جارين على سننه في خلقه، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتسبيح والتهليل والدعاء اذكروه على كل حال تكونون عليها من قيام في المسايفة والمقارعة، وقعود للرمي أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، لتقوى قلوبكم وتعلو هممكم، وتحتقروا متاعب الدنيا ومشاقها في سبيله، فهذا مما يرجى به الثبات والصبر، وما يعقبهما من الفلاح والنصر، وهذا كقوله تعالى في سورة الأنفال {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [الأنفال:46].
وإذا كنا مأمورين بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يعطيه السياق، فأجدر بنا أن نؤمر بذلك في كل حال من أحوال السلم كما يعطيه الإطلاق، على أن المؤمن في حرب دائمة وجهاد مستمر، تارة يجاهد الأعداء، وتارة يجاهد الأهواء، ولذلك وصف الله المؤمنين العقلاء بقوله {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران:191] وأمرهم بكثرة الذكر في عدة آيات. وذكر الله أعون ما يعين على تربية النفس وإن جهل ذلك الغافلون. روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على عقله، فقال {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. اه.
{فإذا اطمأننتم} أي فإذا اطمأنت أنفسكم بالأمن وزال خوفكم من العدو {فأقيموا الصلاة} أي ائتوا بها مقومة تامة الأركان والحدود والآداب، لا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم في حال من أحوال الخوف، ولا من ركعاتها ونظام جماعتها كما أذن لكم في حال أخرى منها، وقيل إن المراد بالاطمئنان الاستقرار في دار الإقامة بعد انتهاء السفر لأنه مظنته. وإذا كان هذا الحكم مقابلا لما تقدم من حكم القصر من الصلاة إذا عرض الخوف، ومن كيفية صلاة الخوف، فالمراد بالاطمئنان فيه ما يقابل السفر والخوف جميعا، كما أن المراد بإقامة الصلاة ما يقابل القصر منها بنوعيه: القصر من هيئتها وحدودها والقصر من عدد ركعاتها، وذلك أن السفر تقابله الإقامة ولم يقل فإذا أقمتم، والخوف يقابله الأمن كما قال في آية أخرى {وآمنهم من خوف} [قريش:4] ولم يقل هنا فإذا أمنتم، ومعنى الاطمئنان السكون بعد اضطراب وانزعاج فهو يقابل كلا من الخوف والسفر مجتمعين ومنفردين إذ يصدق على من زال خوفه في سفره أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان، كما يصدق على من انتهى سفره واستقر في وطنه أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان.
وهذا المعنى يلتئم مع قول من قال إن الآيتين السابقتين وردتا في صلاة الخوف لا صلاة السفر سواء منهم من قال إن صلاة السفر قد ثبت القصر فيها بالسنة المتواترة ومن قال إنها شرعت ركعتين ركعتين إلا المغرب فقط فإنها ثلاث، ومع قول من قال إنهما جامعتان لصلاة السفر بقصر الرباعية فيه ولصلاة الخوف بأنواعها، ومنها ما تكون فريضة المأموم فيها ركعة واحدة ومنها ما يكون بالإيماء، سواء منهم من تأول في اشتراط الخوف فلم يجعل له مفهوما أو جعل مفهومه منسوخا، ومن فصل فجعل شرط السفر خاصا بقصر الرباعية إلى ثنتين وشرط الخوف خاصا بقصرها إلى ركعة واحدة، أو القصر من هيئتها وأركانها.
{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} هذا تذييل في تعليل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها، أي إن الصلاة كانت في حكم الله ومقتضى حكمته في هداية عباده كتابا أي فرضا مؤكدا ثابتا ثبوت الكتاب في اللوح أو الطرس، موقوتا أي منجّما في أوقات محدودة لابد من أدائها فيها بقدر الإمكان، وإن أداءها في أوقاتها مقصورا منها بشرطه خير من تأخيرها لقضائها تامة، وسنبين ذلك في بحث حكمة التوقيت. روى ابن جرير عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير "موقوتا "منجما كلما مضى نجم جاء نجم (قال) يقول كلما مضى وقت جاء وقت آخر اه يقال وقت العمل يقته (كوعده يعده) ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدي فيه، ويقال أقته أيضا بالهمزة بدلا من الواو كما يقال وكدت الشيء توكيدا وأكدته تأكيدا.
التشكيك شنشنة لأهل الجدل والمراء من دعاة الملل، ومتعصبي مقلدة المذاهب والنحل، وناهيك بمن يتخذونه صناعة وحرفة كدعاة النصرانية الذين عرفناهم في بلادنا، وقد صار بعض شبهاتهم على الإسلام يروح في سوق المتفرنجين، فيما يوافق أهواءهم من التفصي من عقل الدين، ومن أغرب ذلك اعتراضهم على توقيت الصلاة وزعمهم أنه عبارة عن جعلها رسوما صورية، وعادات بدنية، وأن المعقول أن يوكل كل هذا إلى اختيار المؤمن فيذكر ربه ويناجيه عندما يجد فراغا تسلم به الصلاة من الشواغل، ولا توجد قاعدة من قواعد الشرائع أو القوانين، ولا نظرية من نظريات العلم والفلسفة، ولا مسألة من مسائل الاجتماع والآداب، إلا ويمكن الجدال فيها، والمراء في نفعها أو ضرها. وقد سئلت عن هذه المسألة في شعبان سنة1328 وأنا في القسطنطينية فأجبت عنها جوابا وجيزا مستعجلا نشر في (ص579) من مجلد المنار الثالث عشر. وهذا نص السؤال وقد ورد مع أسئلة أخرى:
" إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي إلى تهذيب الأخلاق وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم صلاته بمواعيد، فكيف يعقل والناس على ما ترى أن كل الصلوات التي تقام في المساجد والبيوت هي بإخلاص عند كل المسلمين؟ وإذا كان الجزء القليل منها هو المقصود من الدين والمبني على الفضيلة فلماذا لا تترك الحرية التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم؟ وإلا فما هي الفائدة التي تعود على النفس من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيق للعبادة، بل اتباعا للمواعيد، واحتراما للتقاليد؟".
الجواب عن هذا يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل نفسه بما يعتقد أنه الحق وفيه الفائدة والخير، بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك العناية بتكميل إيمانه، وتهذيب نفسه، وشكر ربه وذكره، وقد رأيت بعض المتعلمين في المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على الحتم، ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضا وجوب غير ذلك من أنواع الطهارة بناء على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته إليها، والعقل يحدد ذلك ويوقته!! هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وإن ما جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسبانين خطأ فهم قد تربّوا على أعمال من الطهارة (النظافة) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في الصباح (التواليت) وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من الأعمال وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة فقياس سائر الناس عليهم في البدو والحضر خطأ جليّ.
إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى اجتهادهم ولذلك ترى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة، وتارة تكون غير نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم وقت معين وإن لم يلم بها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفة دائما. فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان أو الفراش أو البساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء، فالتربية التجريبية تقضي بأن تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة ليكون التنظيف خلقا وعادة لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل. وعندي أن أظهر حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها مقررا في النفس محتما لا هوادة فيه. وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر أنه يوجد إلى الآن في أوربة أناس لا يغتسلون مطلقا إننا نحن الإنكليز أكثر الأوروبيين استحماما وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام عن أهل الهند ثم سبقنا جميع الأمم فيها. فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم للصحة والهناء.
واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبة موقوتة مفروضة بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم.
إذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم، وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل، أي تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال. ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح وتلاوة القرآن والدعاء، فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له، أي حبه للكمال المطلق، وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص، وترغب في الخير والفضل، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء ما لم يكن فرضا معينا وكتابا موقوتا، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس (وهو الصلاة) تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها، ومن قصر في هذا القدر القليل من الذكر الموزع على هذه الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ونفسه، ويغرق في بحر من الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد، ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه، وهو الذي استحسنه السائل. وجملة القول أن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة لجميع أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير في الخير ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي يرونها أوفق بحالهم.
وإذا راجعت تفسير {حافظوا على الصلوات} [البقرة:238] في الجزء الثاني في تفسيرنا هذا تجد بيان ذلك واضحا وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا واظب المؤمن عليها، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القضاء: إتمام الشيء كقوله: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءهم أو أشدّ ذكراً} [البقرة: 200]. والظاهر من قوله: {فإذا قضيتم الصلاة} أنّ المراد من الذكر هنا النوافل، أو ذكر اللسان كالتسبيح والتحميد، (فقد كانوا في الأمن يجلسون إلى أن يفرغوا من التسبيحِ ونحوه)، فرخّص لهم حين الخوف أن يذكروا الله على كلّ حال والمراد القيام والقعود والكون على الجنوب ما كان من ذلك في أحوال الحرب لا لأجل الاستراحة.
وقوله: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} تفريع عن قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [النساء: 101] إلى آخر الآية. فالاطمئنان مراد به القفول من الغزو، لأنّ في الرجوع إلى الأوطان سكوناً من قلاقل السفر واضطراب البدن، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف لعدم مناسبته هنا، وقد تقدّم القول في الاطمئنان عند قوله تعالى: {ولكن ليطمئنّ قلبي} من سورة البقرة (260).
ومعنى: {فأقيموا الصلاة} صلّوها تامّة ولا تقصروها، هذا قول مجاهد وقتادة، فيكون مقابل قوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]، وهو الموافق لما تقدّم من كون الوارد في القرآن هو حكم قصر الصلاة في حال الخوف، دون قصر السفر من غير خوف. فالإقامة هنا الإتيان بالشيء قائماً أي تامّاً، على وجه التمثيل كقوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط} [الرحمن: 9] وقوله: {أنْ أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه} [الشورى: 13]. وهذا قول جمهور الأيّمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لاَ يؤدّي المجاهد الصلاة حتّى يزول الخَوف، لأنّه رأى مباشرة القتال فعلاً يفسد الصلاة. وقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض إلى قوله: فإذا اطمأننتم} [النساء: 101 103] يرجْح قول الجمهور، لأنّ قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} مسوق مساق التعليل للحرص على أدائها في أوقاتها.
والموقوت: المحدود بأوقات، والمنجّم عليها، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز. والأول أظهر هنا.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن التعبير عن صلاة الخوف بقوله: {فإذا قضيتم} في مقابل قوله تعالى عند الاطمئنان: {فأقيموا الصلاة} فيه إشارة إلى أنها بدل عن الصلاة الكاملة تؤدي معناها، وإن لم تكن مثلها في الصورة الظاهرة...
إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}، أي الصلاة مكتوبة على المؤمنين مؤقتة بأوقاتها، وهذا تأكيد لفرضيتها، وقد أكدت الفرضية بأربعة مؤكدات: أولها "إن "التي للتوكيد. وثانيها "كانت" التي تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والمستقبل، وثالثها التعبير عن فرضية الصلاة بأنها (كتاب) فهو تعبير عن الوصف بالمصدر، وفيه فضل توكيد، ورابعها التعبير بقوله تعالى: {على المؤمنين} فإن ذلك يفيد الإلزام والحتمية...
كأن المؤمن مطالب بألا يسوف ويؤخر الصلاة عن وقتها، وأن يذكر الله قائما وقاعدا، وعلى جنبه وذلك لتكون الصلاة دائما بؤرة شعور الإنسان بل إن المؤمن مطالب بذكر الله حتى وهو يسايف عدوه وينازله، فهو يحمل السيف ولسانه رطب بذكر الله ويقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إِقامتها حتى في جبهات الحرب، تحث الآية (103) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء الصّلاة، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين، يحتمل أن يكون في فترات الاستراحة التي تسنح للمسلمين وهم في ساحة الحرب، كما يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلا.
إِنّ هذه الآية تشير في الحقيقة إِلى أمر إِسلامي مهم، يدل على أنّ أداء الصّلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإِنسان ذكر الله في الحالات الأخرى، فالصّلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إِلى الله لدى الفرد، فيستطيع في أوقات أُخرى غير وقت الصّلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه، سواء كان في ساحة القتال أو في مكان آخر.
وقد فسّرت هذه الآية في روايات عديدة على أنّها تبيّن كيفية أداء الصّلاة بالنسبة للمرضى، أي أنّهم إِذا استطاعوا فليؤدوا الصّلاة قياماً، وإِن لم يقدروا على ذلك فقعوداً، وإِذا عجزوا عن القعود فعلى أحد جنبيهم.
وهذا التّفسير في الحقيقة نوع من التعميم والتوسع في معنى الآية، ولو أنّها لا تخص هذا المجال.
وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة الخوف هو حكم استثنائي طارئ، وعلى المسلمين إِذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدوا صلاتهم بالطريقة المعتادة (فإِذا اطمأننتم فأقيموا الصّلاة...).
وتوضح الآية في النهاية سر التأكيد على الصّلاة بقولها إن الصّلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير: (...إِنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً).
إِنّ عبارة «موقوت» من المصدر «وقت»، وعلى هذا الأساس فإِن الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإِسلامية، لأنّ للصّلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها.
ولكن الروايات العديدة التي وردت في شرح هذه الآية تبيّن أنّ عبارة «موقوتاً» تعني «ثابتاً» و«واجباً» ممّا لا ينافى مفهوم الآية أيضاً، والنتيجة هي أنّهما قريبين من المعنى الأوّل.
يقول البعض: إِنّهم لا ينكرون فلسفة وأهمية الصّلاة وآثارها التربوية، ولكنهم يسألون عن ضرورة إِقامتها في أوقات محددة، ويرون أن الأحسن أن يترك الناس أحراراً لكي يؤدي كل منهم الصّلاة متى ما سنحت له الفرصة أو متى ما وجد استعداداً روحياً لأداء هذه الفريضة؟
إِنّ التّجربة قد أثبت أنّ القضايا التربوية لو لم تخضع لشروط وقيود معينة، فإِن العديد من الناس سيتجاهلون ويتركون هذه القضايا، وسيؤدي هذا التجاهل إِلى أن تتزلزل أركانها، لذلك فإِن القضايا التربوية يجب أن تخضع لقيود خاصّة ويخصص لأدائها أوقات محددة، وأن لا يسمح لأحد بتخطي هذه القيود أو تجاهل تلك الأوقات، خاصّة وإِنّ أداء فريضة كالصّلاة وفي وقت معين وبصورة جماعية يظهر عظمتها وهيبتها وتأثيرها القوي الذي لا يمكن لأحد نكرانه، والصّلاة في الحقيقة من أهم العوامل في تربية الإِنسان وتكوين شخصيته الإِنسانية.