{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ }
أي : { لَيْسَ ْ } الأمر والنجاة والتزكية { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ْ } والأماني : أحاديث النفس المجردة عن العمل ، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها . وهذا عامّ في كل أمر ، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية ؟ !
فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ } وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى .
وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف ، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان ، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه ، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ } وهذا شامل لجميع العاملين ، لأن السوء شامل لأي ذنب كان{[242]} .
من صغائر الذنوب وكبائرها ، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير ، دنيوي أو أخروي .
والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله ، فمستقل ومستكثر ، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا . فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم .
ومن كان عمله صالحا ، وهو مستقيم في غالب أحواله ، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [ بعض ]{[243]}
الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب ، وهي مما يجزى به على عمله ، قيضها الله لطفا بعباده ، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة .
وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، كما دلت على ذلك النصوص .
وقوله : { وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ } لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه ، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك ، فليس له ولي يحصل له المطلوب ، ولا نصير يدفع عنه المرهوب ، إلا ربه ومليكه .
قال قتادة : ذُكرَ لنا أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ]{[8356]} } الآية . فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .
وكذا روي عن السّدي ، ومسروق ، والضحاك وأبي صالح ، وغيرهم وكذا رَوَى العَوْفيّ عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : تخاصَمَ أهل الأديان فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل مثل ذلك . وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام . وكتابنا نَسَخَ كلّ كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأُمرْتُم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا . فقضى الله بينهم فقال : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وخَيَّر بين الأديان فقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ]{[8357]} } إلى قوله : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا }
وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبْعث ولن نُعذَّب . وقالت اليهود والنصارى : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 ] وقالوا { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .
والمعنى في هذه الآية : أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال : " إنه هو المُحق " سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ؛ ولهذا قال تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله ، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام ؛ ولهذا قال بعده : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } كقوله { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أخْبرْتُ أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فَكُل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غَفَر اللَّهُ لكَ يا أبا بكر ، ألستَ تَمْرضُ ؟ ألستَ تَنْصَب ؟ ألست تَحْزَن ؟ ألست تُصيبك اللأواء{[8358]} ؟ " قال : بلى . قال : " فهو ما تُجْزَوْنَ به " .
ورواه سعيد بن منصور ، عن خلف بن خليفة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يَعلى ، عن أبي خَيْثَمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري ، عن إسماعيل به{[8359]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سُوءًا يُجْزَ بِهِ في الدنيا " {[8360]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن هُشَيْم بن جُهَيْمَة ، حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا ولا تمرُّنَّ عليه . قال : فسها الغلام ، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثًا ، أما والله ما علمتك إلا صوّامًا قوّامًا وصّالا{[8361]} للرحم ، أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها . قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به " .
ورواه أبو بكر البزار في مسنده ، عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، به{[8362]} مختصرا . وقد قال في مسند ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العُروفي{[8363]} حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حَيّان ، حدثني أبي ، عن جدي حيان بن بسطام ، قال : كنت مع ابن عمر ، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب ، فقال : رحمك الله أبا خُبيب ، سمعت أباك - يعني الزبير - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءًا يُجْزَ به في الدنيا والأخرى " ثم قال : لا نعلمه يروي عن الزبير إلا من هذا الوجه . {[8364]}
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني مولى بن سِبَاع قال : سمعت ابن عمر يحدث ، عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، هل أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت : بلى يا رسول الله . فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصَامًا في ظهري حتى تمطأت{[8365]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مالك يا أبا بكر ؟ " قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجْزيُّون بكل سوء عملناه ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فَتُجْزَوْنَ بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ، وليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة " .
وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، وعبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، به . ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ، ومولى بن سباع مجهول{[8366]} .
[ وقال ابن جرير : حدثنا الغلام ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لمَّا نزلت قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما هي المصائب في الدنيا " ]{[8367]} .
طريق أخرى عن الصديق : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا محمد بن عامر السعدي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن سليمان بن مهران ، عن مسلم بن صُبَيح ، عن مسروق قال : قال أبو بكر [ الصديق ]{[8368]} يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء " {[8369]} .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي ، حدثنا محمد بن زيد بن قُنْفُذ{[8370]} عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : " يا أبا بكر ، أليس يصيبك كذا وكذا ؟ فهو كفارة " {[8371]} .
حديث آخر : قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة : أن رجلا تلا هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقال : إنا لنُجْزَى بكل عَمَل{[8372]} ؟ هلكنا إذًا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " نعم ، يجزى به المؤمن في الدنيا ، في نفسه ، في جسده ، فيما يؤذيه " {[8373]} .
طريق{[8374]} أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن بشير ، حدثنا هُشَيْم ، عن أبي عامر ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقال : " هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها " .
رواه ابن جرير من حديث هشيم ، به . ورواه أبو داود ، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز{[8375]} به{[8376]} .
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقالت : ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عائشة ، هذه مبايعة الله للعبد ، مما يصيبه من الحمى والنَّكْبَة والشوكة ، حتى البضاعة فيضعها في كُمِّه فيفزع لها ، فيجدها في جيبه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير " {[8377]} .
طريق أخرى : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن{[8378]} إبراهيم ، حدثنا أبو القاسم ، حدثنا سُرَيج{[8379]} بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن زيد بن المهاجر ، عن عائشة قالت : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال : " إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفَيْظ{[8380]} عند الموت " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحَزَن ليُكَفِّرها عنه " {[8381]} .
حديث آخر : قال سعيد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمر بن عبد الرحمن بن مُحَيْصِن ، سمع محمد بن قيس بن مَخْرَمَة ، يخبر أن أبا هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } شَقّ ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَدِّدوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يُشَاكها ، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا " .
وهكذا رواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، ومسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به{[8382]} ورواه ابن مَردُويه من حديث روح ومعتمر كلاهما ، عن إبراهيم بن يزيد{[8383]} عن عبد الله بن إبراهيم ، سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ، ما أبقت هذه الآية من شيء . قال : " أما والذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسَدِّدوا ؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم في الدنيا إلا كفَّر الله بها خطيئته ، حتى الشوكة يُشَاكها أحدكم في قدمه " {[8384]} .
وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة : إنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من نَصب ولا وَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن ، حتى الهم يُهَمّه ، إلا كُفّر به من سيئاته " أخرجاه{[8385]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سعد بن إسحاق ، حدثتني زينب بنت كعب بنُ عُجْرَة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ؟ ما لنا بها ؟ قال : " كفارات " . قال أبي : وإن قَلَّتْ ؟ قال : " وإن شوكة فما فوقها " قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الْوَعْك حتى يموت ، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة ، ولا جهاد في سبيل الله ، ولا صلاة مكتوبة في جماعة ، فما مسه إنسان إلا وجد حره ، حتى مات ، رضي الله عنه . تفرد به أحمد{[8386]} .
حديث آخر : روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ؟ قال : " نعم ، ومن يعمل حسنة يُجزَ بها عشرا . فهلك من غلب واحدته{[8387]} عشرًا " {[8388]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال : الكافر ، ثم قرأ : { وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] .
وهكذا رُوي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير : أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا .
وقوله : { وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه . رواه ابن أبي حاتم .
والصحيح أن ذلك عامٌّ في جميع الأعمال ، لما تقدم من الأحاديث ، وهذا اختيار ابن جرير ، والله أعلم .
الأظهر أنّ قوله : { ليس بأمانيكم } استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال ، والتشويه بمساويها ، وأنّ في ( ليس ) ضميراً عائداً على الجزاء المفهوم من قوله : { يجز به } ، أي ليس الجزاء تابعاً لأماني الناس ومشتهاهم ، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديراً بحسب الأعمال ، وممّا يؤيّد أن يكون قوله : { ليس بأمانيكم } استئنافاً ابتدائياً أنّه وقع بعد تذييل مُشعر بالنهاية وهو قوله : { ومن أصْدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] . ومِمّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاماً في الضمير ، ثم بياناً له بالحملة بعده ، وهي : { من يعمل سوءاً يجز به } ؛ وأنّ فيه تقديم جملة { ليس بأمانيكم } عن موقعها الذي يُترقّب في آخر الكلام ، فكان تقديمها إظهاراً للاهتمام بها ، وتهيئةً لإبهام الضمير . وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم . وجملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئناف بياني ناشىء عن جملة { ليس بأمانيكم } لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل . ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه . وجعل صاحب « الكشاف » الضمير المستتر عائداً على وعد الله ، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم ؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالاً من { وعْدَ الله } [ النساء : 122 ] ، وتكون جملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئنافاً ابتدائياً محضاً .
روي الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح ، وروى ابن جرير بسنده إلى مسروق ، وقتادةَ ، والسدّي ، والضحاك ، وبعضُ الروايات يزيد على بعض ، أنّ سبب نزولها : أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، كلّ فريق يقول للآخرين : نحن خير منكم ، ويحتجّ لذلك ويقول : لن يدخل الجنة إلاّ من كان على ديننا . فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله ، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى ، فبطل قول النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة ، فبطل قول المسلمين واليهود : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكماً فصلاً بين الفرق ، وتعليماً لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح ، وتوفّر العمل الصالح معه ، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } . ثم إنّ الله لَوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله : { وهو مؤمن } فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ ، فهو كالعدم ، فعقّب هذه الآية بقوله : { ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه الله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً }
[ النساء : 125 ] . والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين ، لا لأنّ أمانيّهم كذلك ، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم . وعن عكرمة : قالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان منّا . وقال المشركون : لا نُبْعث .
والباء في قوله : { بأمانيكم } للملابسة ، أي ليس الجزاء حاصلاً حصولاً على حسب أمانيّكم ، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية .
والأمانيّ جمع أمنية ، وهي اسم للتمنّي ، أي تقدير غير الواقع واقعاً . والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ } في سورة البقرة ( 78 ) . وكأنَّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد ، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به . وما وافقه هو الحقّ ، والمقصد المهمّ هو قوله : { ولا أمانيّ أهل الكتاب } على نحو : { وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] فإنّ اليهود كانوا في غرور ، يقولون : لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة . وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله : { وقالوا لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] { تلك أمانيّهم } [ البقرة : 111 ] . أمّا المسلمون فمُحاشون من اعتقاد مثل ذلك .
وقيل : الخطاب لكفار العرب ، أي ليس بأمانيّ المشركين ، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله ، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله ، وهو محمل للآية .
وقوله : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } زيادة تأكيد ، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحداً يغني عن عذاب الله .
والوليّ هو المولى ، أي المشارك في نسب القبيلة ، والمراد به المدافع عن قريبه ، والنصيرُ الذي إذا استنجدته نصرَك ، أو الحليف ، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين .