{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } أي : لما أتلفهم الله وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والأرض أي : لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم ، بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم حتى السماء والأرض لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين .
{ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } أي : ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال .
وقوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } أي : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم ؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم ، وعتوهم وعنادهم .
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني يزيد الرقاشي ، حدثني أنس بن مالك{[26216]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه{[26217]} عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " وتلا هذه الآية : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } وذُكر أنهم لم يكونوا عملوا{[26218]} على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم . ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ، ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم{[26219]} .
ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي .
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن طلحة ، حدثني عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {[26220]} إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا . ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } ثم قال : " إنهما لا يبكيان على الكافر " {[26221]} .
وقال{[26222]} ابن أبى حاتم : حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا العلاء بن صالح ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل عليًّا رضي الله عنه : هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، إنه ليس [ من ] {[26223]} عبد إلا له مصلى في الأرض ، ومصعد عمله من السماء . وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ، ولا عمل يصعد في السماء ، ثم قرأ علي ، رضي الله عنه { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا طلق بن غَنَّام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن منهال ، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رجلٌ فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه بكى عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض {[26224]} .
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن{[26225]} ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[26226]} قال : كان يقال : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد .
وقال مجاهد أيضا : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا ، قال : فقلت له : أتبكي الأرض ؟ فقال : أتعجب ؟ وما للأرض لا تبكي على عبد ، كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟
وقال قتادة : كانوا أهون على الله من أن تبكي عليهم السماء والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد السلام بن عاصم ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا المستورد بن سابق ، عن عبيد المكتب ، عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين قلت لعبيد : أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال : ذاك مقامه حيث يصعد عمله . قال : وتدري ما بكاء السماء ؟ قلت {[26227]} لا قال : تحمر وتصير وردة كالدهان ، إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دمًا . وإن حسين بن علي لما قتل احمرت السماء .
وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو - زُنَيج - حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل حسين{[26228]} بن علي ، رضي الله عنهما ، احمرت آفاق السماء أربعة أشهر . قال يزيد : واحمرارها بكاؤها . وهكذا قال السدي الكبير .
وقال عطاء الخراساني : بكاؤها : أن تحمر أطرافها .
وذكروا {[26229]} أيضًا في مقتل الحسين أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عَبِيط ، وأنه كسفت الشمس ، واحمر الأفق ، وسقطت حجارة . وفي كل من ذلك نظر ، والظاهر أنه من سُخْف الشيعة وكذبهم ، ليعظموا الأمر - ولا شك أنه عظيم - ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه ، وقد وقع ما هو أعظم من [ ذلك ] {[26230]} - قتل الحسين رضي الله عنه - ولم يقع شيء مما ذكروه ، فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب ، وهو أفضل منه بالإجماع ولم يقع {[26231]} [ شيء من ] {[26232]} ذلك ، وعثمان بن عفان قتل محصورًا مظلومًا ، ولم يكن شيء من ذلك . وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قتل في المحراب في صلاة الصبح ، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ، ولم يكن شيء من ذلك . وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه . ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس : [ الشمس ]{[26233]} خسفت لموت إبراهيم ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف ، وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته {[26234]} .
{ فما بكت عليهم السماء والأرض } مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم : بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك . ومنه ما روي في الأخبار : إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه . وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض { وما كانوا منظرين } ممهلين إلى وقت آخر .
تفريع على قوله : { كم تركوا من جنات } إلى قوله : { قوماً آخرين } [ الدخان : 25 28 ] ، فإن ذلك كله يتضمن أنهم هلكوا وانقرضوا ، أي فما كان مُهلَكُهم إلا كمُهلَك غيرهم ولم يكن حدثاً عظيماً كما كانوا يحسبون ويحسب قومُهم ، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهوِّلوا أمر موته بنحو : بَكت عليه السماء ، وبكته الريح ، وتزلزلتْ الجبال ، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه :
فإن يهلك أبو قابوس يهلِك *** ربيعُ الناس والبلدُ الحرام
وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
بكَى حارثُ الجَولان من فقد ربه *** وحَوْران منه موحَش مُتضائل
والكلام مسوق مساق التحقير لهم ، وقريب منه قوله تعالى : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } [ إبراهيم : 46 ] ، وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين ، قال أبو بكر بن اللَّبَّانَةِ الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك إشبيلية :
تبكي السماء بمزن رائحٍ غَاد *** على البهاليل من أبناء عَباد
والمعنى : فما كان هلاكهم إلا كهلاك غيرهم وَلا أنظروا بتأخير هلاكهم بل عجّل لهم الاستئصال .