السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} (29)

ولما سكن القوم الآخرون بمصر ورثوا كنوزها وأموالها ونعمها ومقامها الكريم وقوله تعالى : { فما بكت عليهم السماء والأرض } مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم لهوانهم ، وإذا لم تبك المساكن فما ظنك بالساكن الذي هو فيها تقول العرب : إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس قال الفرزدق :

فالشمس طالعة ليست بكاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمر

وقالت الخارجية :

أيا شجر الخابور مالك مورقاً *** كأنك لم تجزع على ابن طريف

وقال جرير :

لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع

وذلك على سبيل التخييل والتمثيل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء ، عليه قال الزمخشري : وكذلك ما يروى عن ابن عباس من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل ، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى : { فما بكت عليهم السماء والأرض } تهكماً بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض .

وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من مسلم إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا مات وفقداه بكيا عليه وتلا هذه الآية » . وقال علي رضي الله عنه : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء . وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين يعني فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض . وقال عطاء : بكاء السماء حمرة أطرافها ، وقال السدي : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما : بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها ، وقرأ أبو عمرو عليهم في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضمهما ، والباقون : بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء والباقون بالكسر { وما كانوا منظرين } أي : لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير .