{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض } مجاز عن عدم الاكتراب بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ، وهو استعارة تمثيلية تخييلية شبه حال موتهم لشدته وعظمته بحال من تبكي عليه السماء والأجرام العظام وأثبت له ذلك والنفي تابع للإثبات في التجوز كما حقق في موضعه ، وقيل : هي استعارة مكنية تخييلية بأن شبه السماء والأرض بالإنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن شبه حالهما في عدم تغير حالهما وبقائهما على ما كانا عليه بحال من لم يبك ، وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم ، وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك ، قال يزيد بن مفرغ :
الريح يبكي شجوه *** والبرق يلمع في غمامه
بكى حارث الجولان من فقد ربه *** وحوران منه خاشع متضائل
أراد بهما مكانين معروفين ، وقال جرير :
لما أتى بخبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز :
الشمس طالعة ليست بكاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يتعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة ، والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته ، قال جار الله : كان رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار فتبكيه الشمس والشمس غالبة في البكار لأن العدل أفضل من صلاة الليل ، والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفاً لها مجازاً ، وفيه أن الكسف بالمعنى المذكور غير واضح وتخلل تبكي غير مستفصح وفي «حواشي الصحاح » الشمس كاسفة ليست بطالعة .
وفيها أن نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه من باب آتيك الشمس والقمر أي وقتهما كأنه قيل : تبكي ما يطلع النجوم والقمر ، وفيه أن مثل هذا الظرف مسموع لا يثبت إلا بثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى الواضح ، وقيل : التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف . وفيه أنه مما لا يكاد يفهم ، والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول معه وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه .
وأخرج الترمذي . وجماعة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد مه علمه وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض } " وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملاً صالحاً فتفقدهم فتبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم .
/ وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان » والحاكم وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال ؛ «إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً ثم قرأ الآية » وأخرج ابن المنذر . وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا { فَمَا بَكَتْ } الخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل .
ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات شعوراً لائقاً بحالها لم يحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء حقيقياً لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضاً .
وأخرج ابن جرير . وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافها . وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه ، وأخرج عن سفيان الثوري قال : كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن ؛ ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله ، وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه ، وقيل : إن الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماء وهم الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين .
وروى هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم { وَمَا كَانُواْ } لما جاء وقت هلاكهم { مُّنظَرِينَ } ممهلين إلى وقت آخر أو إلى يوم القيامة بل عجل لهم في الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.