فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} (29)

{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداء بوجودهم ، كقولك : بكت عليهم السماء وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك فالبكاء مجاز مرسل ومع ذلك لابد من جعل الآية استعارة بالكناية ، والمعنى أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض ، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض ، أي عمت مصيبته ، وقال الحسن في الكلام مضاف محذوف أي فما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس ، وقال الزمخشري ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض ، ولم يكونوا بهذا الحد بل كانوا دون ذلك فذكر هذا تهكما بهم .

وقال مجاهد إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحا ، وقيل تبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد عمله ، وعلى هذا إنه بكاء كالمعروف من بكاء الحيوان ، وفي معنى الآية وجهان ، والثاني أظهر وأوفق بالأحاديث ونظم القرآن قال السدي : لما قتل الحسين رضي الله عنه بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها .

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من عبد إلا وله بابان باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه ، وتلا هذه الآية فما بكت " {[1481]} الخ وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ، ولا من عملهم ، كلام صالح فيفتقدهم ، فيبكي عليهم ، " {[1482]} أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والخطيب .

وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس ، وعنه قال : ( يقال : الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحا " وعن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال إنهما لا تبكيان على كافر ) أخرجه ابن جرير وابن أبي الدنيا .

وعن علي رضي الله تعالى عنه ( إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه ومصعد عمله من السماء ، ثم تلا الآية ) { وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } أي مؤخرين للتوبة وممهلين إلى وقت آخر . بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم .


[1481]:الترمذي 2/158.
[1482]:السيوطي في الدر 6/31.