40- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي تفضلت بها عليكم أنتم وآباؤكم بالتفكير فيها والقيام بواجب شكرها ، وأوفوا بعهدي الذي أخذته عليكم وأقررتموه على أنفسكم ، وهو الإيمان ، والعمل الصالح ، والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء ، حتى أوفى بوعدي لكم وهو حسن الثواب والنعيم المقيم ، ولا تخافوا أحداً غيري ، واحذروا من أسباب غضبى عليكم .
ثم شرع تعالى يذكِّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } المراد بإسرائيل : يعقوب عليه السلام ، والخطاب مع فرق بني إسرائيل ، الذين بالمدينة وما حولها ، ويدخل فيهم من أتى من بعدهم ، فأمرهم بأمر عام ، فقال : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها ، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه .
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } وهو ما عهده إليهم من الإيمان به ، وبرسله وإقامة شرعه .
{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } وهو المجازاة على ذلك .
والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ [ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ] } إلى قوله : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }
ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده ، وهو الرهبة منه تعالى ، وخشيته وحده ، فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه .
يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل ، وهو نبي الله يعقوب ، عليه السلام ، وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا . يا ابن الشجاع ، بارز الأبطال ، يا ابن العالم ، اطلب العلم ونحو ذلك .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [ الإسراء : 3 ] فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام ، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي : حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حَوشب ، قال : حدثني عبد الله بن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟ " . قالوا : اللهم نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد{[1625]} " {[1626]} وقال الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن إسرائيل كقولك : عبد الله .
وقوله تعالى : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك ، فَجَّر لهم الحجر ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون .
وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب .
قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم : { يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 20 ] يعني في زمانهم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي : بلائي عندكم وعند آبائكم لِمَا كان نجاهم به من فرعون وقومه { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال : بعهدي الذي أخذت في{[1627]} أَعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم . { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي : أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه ، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم .
[ وقال الحسن البصري : هو قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } الآية [ المائدة : 12 ] . وقال آخرون : هو الذي أخذه الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة وجعل له أجران . وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم ]{[1628]} .
وقال أبو العالية : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } قال : عهده إلى عباده : دينه الإسلام أن يتبعوه .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال : أرْض عنكم وأدخلكم الجنة .
وكذا قال السدي ، والضحاك ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس .
وقوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي : فاخشون ؛ قاله أبو العالية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي أنزل بكم ما أنزل{[1629]} بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره .
وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب ، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره ، وامتثال أوامره ، وتصديق أخباره ، والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم ؛
ولهذا{[1630]} قال : { وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }
{ يا بني إسرائيل } أي أولاد يعقوب ، والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ، ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال : أبو الحرب ، وبنت الفكر . وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية : صفوة الله ، وقيل : عبد الله ، وقرئ { إسرائيل } بحذف الياء وإسرال بحذفهما و{ إسرائيل } بقلب الهمزة ياء . { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها ، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ، وإن نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر . وقيل أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق ، ومن العفو عن اتخاذ العجل ، وعليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم وقرئ { اذكروا } والأصل إذتكروا . ونعمتي بإسكان الياء وقفا وإسقاطها درجا هو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها .
{ وأوفوا بعهدي } بالإيمان والطاعة .
{ أوف بعهدكم } بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد ، ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب ، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم ، وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله تعالى حقن الدم والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره ، ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم . وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، أوف بعهدكم في رفع الأنصار والإغلال . وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب . أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم ، أوف بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى الوسائط . وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة ، أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة . وتفصيل العهدين في سورة المائدة في قوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } . وقرئ أوف بالتشديد للمبالغة .
{ وإياي فارهبون } فيما تأتون وتذرون وخصوصا في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول ، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئا فارهبون . والرهبة : خوف مع تحرز . والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد ، وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلا الله تعالى .