إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (40)

{ يا بَنِي إسرائيل } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى طائفة خاصةٍ من الكَفَرة المعاصِرين للنبي صلى الله عليه وسلم لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرِه بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } [ البقرة ، الآية 30 ] الخ { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } [ البقرة ، الآية 34 ] الخ لأن المعنى كما أشير إليه بلّغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفةً في الأرض ومسجوداً للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماءِ وقبِلْنا توبتَه ، والابنُ من البِناء لأنه مَبْنَى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه ، فيقال : أبو الحرب وبنتُ فكرٍ ، وإسرائيلُ لقبُ يعقوبَ عليه السلام ومعناه بالعبرية صفوةُ الله ، وقيل : عبد اللَّه ، وقرئ إسرائِلَ بحذف الياء وإسرالَ بحذفهما وإسرايل بقلب الهمزة ياء ، وإسراءَلَ بهمزة مفتوحة ، وإسرئِلَ بهمزة مكسورة بين الراء واللام ، وتخصيصُ هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفرُ الناس نعمةً وأكثرهم كفراً بها .

{ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } بالتفكر فيها والقيام بشكرها ، وفيه إشعار بأنهم قد نسُوها بالكلية ، ولم يُخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط ، وإضافةُ النعمة إلى ضمير الجلالة لتشريفها وإيجابِ تخصيصِ شكرها به تعالى ، وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبولٌ على حب النعمة ، فإذا نظرَ إلى ما فاض عليه من النعم حملَه ذلك على الرضى والشُكر ، قيل : أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجيء تفصيلُها وعليهم من فنون النعم التي أجلُّها إدراكُ عصر النبي عليه السلام ، وقرئ ( اذَّكِروا ) من الافتعال ونعمتيْ بإسكان الياء وإسقاطها في الدرْج وهو مذهبُ من لا يحرك الياءَ المكسورَ ما قبلها { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي } بالإيمان والطاعة { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بحسن الإثابة ، والعهد يضاف إلى كل واحد ممن يتولى طرفيه ، ولعل الأولَ مضافٌ إلى الفاعل والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى عَهِد إليهم بالإيمان والعملِ الصالحِ بنصب الدلائلِ وإرسال الرسل وإنزال الكتب ووعدهم بالثواب على حسناتهم ، وللوفاء بهما عَرْضٌ عريض ، فأولُ مراتبه منا هو الإتيانُ بكلمتي الشهادة ، ومن الله تعالى حقنُ الدماء والأموال ، وآخرُها منا الاستغراقُ في بحر التوحيد بحيث نغفُل عن أنفسنا فضلاً عن غيرنا ، ومن الله تعالى الفوزُ باللقاء الدائم ، وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أوفِ بعهدكم في رفع الآصارِ والأغلال . وعن غيره : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوفِ بالمغفرة والثواب ، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوفِ بالكرامة والنعيم المقيم ، فبالنظر إلى الوسائط ، وقيل : كلاهما مضافٌ إلى المفعول ، والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعةِ أوفِ بما عاهدتُكم من حُسن الإثابةِ ، وتفصيلُ العهدين قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِي إسرائيل } إلى قوله : { وَلأدْخِلَنَّكُمْ جنات } [ آل عمران ، الآية 195 ] الخ وقرئ أوَفِّ بالتشديد للمبالغة والتأكيد .

{ وإياي فارهبون } فيما تأتون وما تذرون خصوصاً في نقض العهد ، وهو آكد في إفادة التخصيصِ من إياك نعبد ، لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالةِ على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئاً فارهَبوني ، والرهبة خوف معه تحرز ، والآية متضمنة للوعد والوعيد ودالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد ، وأن المؤمن ينبغي ألا يخاف إلا الله .