غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (40)

40

التفسير : أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته ، أردفها الإنعامات . الخاصة على أسلاف اليهود ، إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيهاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونه إخباراً بالغيب مدرجاً في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم غير منصرف للغلمية والعجمية المعتبرة لقب له ، ومعناه صفوة الله . وقيل : عبد الله ، لأن " إسر " بالعبرية هو العبد ، " وإيل " الله . وقوله { يا بني إسرائيل } خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد صلى الله عليه وسلم . وحد النعمة وما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة . والعائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم . قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرة ، وعبيد المنعم قليلون ، فإن الله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم المنعم فقال { اذكرني أذكركم } [ البقرة : 152 ] عن ابن عباس أنه قال : من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا ، وأعطاهم عموداً من النور أضاء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعت وثيابهم لا تبلى ، وفي تذكير هذه النعم فوائد : منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور . ومنها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . ومنها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة . ومنها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس ، ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه . فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة والمخاصمة . والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم ، ولأن الانتساب إلى آباء خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، ولأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم والإعراض عن الكفر والجحود ، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب " من أشبه أباه فما ظلم " . والعهد يضاف إلى المعاهد جميعاً . يقال : أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه ، وأوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه . والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن عباس . وتحقيقه في قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله } [ التوبة : 111 ] وقيل : المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه ، وإليه الإشارة في قوله { ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } إلى قوله { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [ المائدة : 12 ] وفي الأعراف { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] الآية . وفي آل عمران { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم } [ آل عمران : 81 ] وفي الصف { وإذ قال عيسى بن مريم } [ الصف : 6 ] وعن ابن عباس : إن الله كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً ، فمن تبعه وصدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين ، أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل ، وأجراً باتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } [ الحديد : 28 ] . وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران " فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم ، فكيف يجوز من جماعتهم جحده صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : إما لأن هذا العلم به صلى الله عليه وسلم كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم ولم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه صلى الله عليه وسلم ، وإما لأن ذلك النص كان نصاً خفياً لعدم تعيين الزمان والمكان بحيث يعرفه كل أحد ، فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه . جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك لله تعالى . فقال لها : يا هاجر أين تريدين ؟ قالت : أهرب من سيدتي سارة . فقال : ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك ، وستحبلين وتلدين ابناً تسميه إسماعيل ، من أجل أن الله سمع خشوعك ، وهو يكون عيناً بين الناس وتكون يده فوق الجميع ، ويد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع . فقيل : هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف ، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة . { وإياي فارهبون } فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيداً رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص . فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون . وهو أوكد في إفادة الاختصاص من

{ إياك نعبد } [ الفاتحة : 4 ] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها . أي إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون . ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير . والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول . ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس . يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة .