ولما{[2014]} أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعياً للناس عامة لا سيما بني إسماعيل العرب الذين هم قوم الداعي صلى الله عليه وسلم وكان أحق من دُعِي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حق فزاغوا عنه ولا سيما إن كانت لهم قرابة لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير ، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره وانحسم شره ، وإن لم يرجعوا طال جدالهم فبان للجاهل ضلالهم فكان جديراً بالرجوع والكف عن غيه والنزوع ، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبان الحلال والحرام ؛ فلذلك{[2015]} لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار وختم بأن وعد في اتباع الهدى وتوعد شرع سبحانه يخص العلماء من المنافقين بالذكر وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزم عموم المصارحين منهم بالكفر ، إذ كانوا من أعظم من خُص بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء ، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها فقصّ عليهم ما مثله يليّن الحديد ويخشع الجلاميد فقال تعالى {[2016]}مذكراً لهم بنعمه الخاصة بهم{[2017]}/ : { يا بني إسرائيل } ويجوز أن تقرر{[2018]} المناسبات{[2019]} من أول السورة على وجه آخر فيقال : لما كان الكفار قسمين : قسم محض كفره ، وقسم شابه بنفاق وخداع ، وكان الماحض قسمين : قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب ، وقسم له {[2020]}كتاب يعلم الحق منه ، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال : { إن الذين كفروا سواء عليهم } إلى آخره . ثم أتبعه قسم المنافق ، لأنه أهم بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين وإظهارهم أنهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر ، فقال : { ومن الناس من يقول آمنا{[2021]} } إلى آخره ؛ ولما فرغ من ذلك ومما{[2022]} استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها ، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل ، والتخويف من تلك الغوائل ، والاستعطاف بذكر النعم ، شرع{[2023]} في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف الحق ويخفيه فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام واستمر على الكفر باطناً ، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته ، فلما دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان ، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين ، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن ، وأخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم ، فإن مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس الأفكار فتُسرع في أقطار الأوطار حتى تصير كالأطيار وتأتي ببدائع الأسرار ، ولقد نشر سبحانه في غضون{[2024]} مجادلتهم وغضون{[2025]} محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنه هدى للعالمين ؛ هذا إجمال الأمر ، وفي تفاصيله كما سترى{[2026]} من بدائع الوصف أمور تجل عن الوصف ، تذاق بحسن{[2027]} التعليم ويشفى{[2028]} عيّ جاهلها بلطيف التكليم - والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق .
وقال الحرالي : ثم أقبل الخطاب على بني إسرائيل{[2029]} منتظماً بابتداء خطاب العرب من قوله : { يا أيها الناس } وكذلك انتظام القرآن إنما {[2030]}ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه و{[2031]}ينتظم تفصيله بتفصيله ، فكان أول وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه . ثم قال : لما انتظم{[2032]} إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدى في وقتها
{ إنا أنزلنا التوراة فيها{[2033]} هدى ونور{[2034]} }[ المائدة : 44 ] وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدم لها في ارتقائه من كمال الهدى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا القرآن ، فكان لذلك{[2035]} الأولى{[2036]} مبادرتهم إليه حتى يهتدي{[2037]} بهم العرب ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق - انتهى .
* { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } * { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } * { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وابتدأ{[2038]} سبحانه بتذكيرهم بما خصهم به عن النوع الآدمي من النعم التي كانوا يقابلونها بالكفران وما عاملهم به من إمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة مما يبين سعة رحمته وعظيم حلمه ، وابتدأ من أوامرهم بالإيفاء بالعهود التي من أعظمها متابعة هذا النبي الكريم والإيمان بكتابه الذي نفى عنه الريب فقال{[2039]} : { يا بني إسرائيل }{[2040]} أي الذي شرفته وشرفت بنيه من أجله { اذكروا } {[2041]}من الذكر بالكسر والضم بمعنى واحد يكونان باللسان وبالجنان ، وقال الكسائي : هو بالكسر باللسان وبالضم بالقلب ، والذي بالقلب ضده النسيان ، والذي باللسان ضده الصمت - نقله الأصفهاني . وقال الحرالي : من الذكر وهو استحضار ما سبقه النسيان . { نعمتي } و{[2042]}هي إنالة الشخص ما يوافق نفسه وبدنه وعند المتفطن ما يوافق باطنه وظاهره مما بين قلبه وشعوبه{[2043]} من أهله وحشمه { التي } تي منها إشارة لباطن نازل متخيل مبهم تفسره صلته بمنزلة ذي -{[2044]} ] وال منها إشارة لذلك المعنى بالإشارة المتخيلة - انتهى { أنعمت } أي بها ودللت{[2045]} على شرفها بإضافتها إلى { عليكم }{[2046]} وتلك النعمة الشريفة هي الإتيان بالهدى من الكتب والرسل الذي استنقذتكم به من هوان الدنيا والآخرة { وأوفوا } من الوفاء وهو عمل لاحق بمقتضى تقدم علم سابق - قاله الحرالي . { بعهدي }{[2047]} أي الذي أخذته عليكم في لزوم ما أنزل إليكم من متابعة نبيكم ومن آمَرَكم باتباعه من بعده ، والعهد التقدم في الشيء خفية اختصاصاً لمن يتقدم له فيه - قاله الحرالي{[2048]} ، وقال الأصفهاني : حفظ الشيء ومراعاته حالاً فحالاً ، قال الخليل : أصله الاحتفاظ بالشيء وإجداد العهد به ، { أوف بعهدكم } أي في جعلكم ممن لا خوف عليهم ولا حزن بسعة العيش والنصر على الأعداء كما يأتي عن نص التوراة في مظانه من هذا الكتاب { وإياي } أي خاصة { فارهبون } أي ولا تزلّوا اجْعَلْكم في مصير الكافرين بعد الضرب بأنواع الهوان في الدنيا ، والرهب{[2049]} حذر النفس مما شأنها منه الهرب لأذى تتوقعه ، وخوطبوا بالرهبة لاستبطانها فيما يختص لمخالفة{[2050]} العلم ، قال الحرالي : وأطال سبحانه في حجاجهم جرياً على قانون النظر في جدال العالم الجاحد وخطاب المنكر المعاند ،