{ 68-70 } { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
هذه الآيات ، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات ، ونفوذ مشيئته بجميع البريات ، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه ، من الأشخاص ، والأوامر [ والأزمان ] والأماكن ، وأن أحدا{[611]} ليس له من الأمر والاختيار شيء ، وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به ، من الشريك ، والظهير ، والعوين ، والولد ، والصاحبة ، ونحو ذلك ، مما أشرك به المشركون ،
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار ، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب فقال : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } أي : ما يشاء ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ، ومرجعها إليه .
وقوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } نفي على أصح القولين ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] .
وقد اختار ابن جرير أن { مَا } هاهنا بمعنى " الذي " ، تقديره : ويختار الذي لهم فيه خيرة . وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح . والصحيح أنها نافية ، كما نقله ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس وغيره أيضا ، فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار ، وأنه لا نظير له في ذلك ؛ ولهذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : من الأصنام والأنداد ، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَرَبّكَ يا محمد يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه ، ويَخْتارُ لولايته الخِيَرة من خلقه ، ومن سبقت له منه السعادة . وإنما قال جلّ ثناؤه ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ والمعنى : ما وصفت ، لأن المشركين كانوا فيما ذُكِر عنهم يختارون أموالَهم ، فيجعلونها لاَلهتهم ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار للهداية والإيمان والعمل الصالح من خلقه ، ما هو في سابق علمه أنه خِيَرَتهم ، نظير ما كان من هؤلاء المشركين لاَلهتهم خيار أموالهم ، فكذلك اختياري لنفسي . واجتبائي لولايتي ، واصطفائي لخدمتي وطاعتي ، خيارَ مملكتي وخلقي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنِي عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَرَبّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ قال : كانوا يجعلون خَيْر أموالهم لاَلهتهم في الجاهلية .
فإذا كان معنى ذلك كذلك ، فلا شكّ أن «ما » من قوله : ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ في موضع نصب ، بوقوع يختار عليها ، وأنها بمعنى الذي .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت ، من أن «ما » اسم منصوب بوقوع قوله يَخْتارُ عليها ، فأين خبر كان ؟ فقد علمت أن ذلك إذا كان كما قلت ، أن في كان ذِكْرا من ما ، ولا بدّ لكان إذا كان كذلك من تمام ، وأين التمام ؟ قيل : إن العرب تجعل لحروف الصفات إذا جاءت الأخبار بعدها أحيانا ، أخبارا ، كفعلها بالأسماء إذا جاءت بعدها أخبارها . ذَكر الفرّاء أن القاسمَ بن مَعْن أنشده قول عنترة :
أمِنْ سُمَيّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ *** لَوْ كانَ ذا مِنْكِ قبلَ اليوْمِ مَعْرُوفُ
فرفع معروفا بحرف الصفة ، وهو لا شكّ خبر لذا ، وذُكر أن المفَضّل أنشده ذلك :
*** لوْ أنّ ذا مِنْكِ قبلَ اليَوْمِ مَعْرُوفُ ***
ومنه أيضا قول عمر بن أبي ربيعة :
قُلْتُ أجيبِي عاشِقا *** بِحُبّكُمْ مُكَلّفُ
فِيها ثَلاث كالدّمَى *** وكاعِبٌ ومُسْلِفُ
فمكلّف من نعت عاشق ، وقد رفعه بحرف الصفة ، وهو الباء ، في أشباه لما ذكرنا بكثير من الشواهد ، فكذلك قوله : ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيرَةُ رُفعت الخِيَرة بالصفة ، وهي لهم ، وإن كانت خبرا لما ، لما جاءت بعد الصفة ، ووقعت الصفة موقع الخبر ، فصار كقول القائل : كان عمرو أبوه قائم ، لا شكّ أن قائما لو كان مكان الأب ، وكان الأب هو المتأخر بعده ، كان منصوبا ، فكذلك وجه رفع الخِيَرة ، وهو خبر لما .
فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون «ما » في هذا الموضع جَحْدا ، ويكون معنى الكلام : وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار ما يشاء أن يختاره ، فيكون قوله ويخْتارُ نهاية الخبر عن الخلق والاختيار ، ثم يكون الكلام بعد ذلك مبتدأ بمعنى : لم تكن لهم الخيرة : أي لم يكن للخلق الخِيَرة ، وإنما الخِيَرة لله وحده ؟
قيل : هذا قول لا يخفى فساده على ذي حِجا ، من وجوه ، لو لم يكن بخلافه لأهل التأويل قول ، فكيف والتأويل عمن ذكرنا بخلافه فأما أحد وجوه فَساده ، فهو أن قوله : ما كانَ لَهُمُ الخيرَةُ لو كان كما ظنه من ظنه ، من أن «ما » بمعنى الجحد ، على نحو التأويل الذي ذكرت ، كان إنما جحد تعالى ذكره ، أن تكون لهم الخِيَرة فيما مضى قبل نزول هذه الاَية ، فأما فيما يستقبلونه فلهم الخِيَرة ، لأن قول القائل : ما كان لك هذا ، لا شكّ إنما هو خبر عن أنه لم يكن له ذلك فيما مضى . وقد يجوز أن يكون له فيما يستقبل ، وذلك من الكلام لا شكّ خُلْف . لأن ما لم يكن للخلق من ذلك قديما ، فليس ذلك لهم أبدا . وبعد ، لو أريد ذلك المعنى ، لكان الكلام : فليس . وقيل : وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ليس لهم الخيرة ، ليكون نفيا عن أن يكون ذلك لهم فيما قبلُ وفيما بعد .
والثاني : أن كتاب الله أبين البيان ، وأوضح الكلام ، ومحال أن يوجد فيه شيء غير مفهوم المعنى ، وغير جائز في الكلام أن يقال ابتداء : ما كان لفلان الخِيَرة ، ولما يتقدم قبل ذلك كلام يقتضي ذلك فكذلك قوله : «ويَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الخِيَرةُ » ولم يتقدم قبله من الله تعالى ذكره خبر عن أحد ، أنه ادّعى أنه كان له الخِيَرة ، فيقال له : ما كان لك الخِيَرة ، وإنما جرى قبله الخبر عما هو صائر إليه أمر من تاب من شركه ، وآمن وعمل صالحا ، وأتبع ذلك جلّ ثناؤه الخبر عن سبب إيمان من آمن وعمل صالحا منهم ، وأن ذلك إنما هو لاختياره إياه للإيمان ، وللسابق من علمه فيه اهتدى . ويزيد ما قلنا من ذلك إبانة قوله : وَرَبّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ فأخبر أنه يعلم من عباده السرائر والظواهر ، ويصطفي لنفسه ويختار لطاعته من قد علم منه السريرة الصالحة ، والعلانية الرضية .
والثالث : أن معنى الخيرة في هذا الموضع : إنما هو الخيرة ، وهو الشيء الذي يختار من البهائم والأنعام والرجال والنساء ، يقال منه : أُعطي الخيرة والخِيرَة ، مثل الطّيرة والطّيْرَة ، وليس بالاختيار ، وإذا كانت الخيرة ما وصفنا ، فمعلوم أن من أجود الكلام أن يقال : وربك يخلق ما يشاء ، ويختار ما يشاء ، لم يكن لهم خير بهيمة أو خير طعام ، أو خير رجل أو امرأة .
فإن قال : فهل يجوز أن تكون بمعنى المصدر ؟ قيل : لا ، وذلك أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الكلام : وربك يخلق ما يشاء ويختار كون الخيرة لهم . وإذا كان ذلك معناه ، وجب أن لا تكون الشرار لهم من البهائم والأنعام وإذا لم يكن لهم شرار ذلك وجب أن لا يكون لها مالك ، وذلك ما لا يخفى خطؤه ، لأن لخيارها ولشرارها أربابا يملكونها بتمليك الله إياهم ذلك ، وفي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلى معنى المصدر .
وقوله سبحانه وتعالى : عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالى ذكره تنزيها لله وتبرئة له ، وعلوّا عما أضاف إليه المشركون من الشرك ، وما تخرّصوه من الكذب والباطل عليه . وتأويل الكلام : سبحان الله وتعالى عن شركهم . وقد كان بعض أهل العربية يوجهه إلى أنه بمعنى : وتعالى عن الذي يشركون به .