لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب ، في شأن أهل الكهف ، لعدم علمهم بذلك ، وكان الله عالم الغيب والشهادة ، العالم بكل شيء ، أخبره بمدة لبثهم ، وأن علم ذلك عنده وحده ، فإنه من غيب السماوات والأرض ، وغيبها مختص به ، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله ، فهو الحق اليقين ، الذي لا يشك فيه ، وما لا يطلع رسله عليه ، فإن أحدا من الخلق ، لا يعلمه .
وقوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } تعجب من كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات ، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات . ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة ، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون ، الولي لعباده المؤمنين ، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى ، ويجنبهم العسرى ، ولهذا قال : { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ } أي : هو الذي تولى أصحاب الكهف ، بلطفه وكرمه ، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق .
{ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وهذا يشمل الحكم الكوني القدري ، والحكم الشرعي الديني ، فإنه الحاكم في خلقه ، قضاء وقدرا ، وخلقا وتدبيرا ، والحاكم فيهم ، بأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه .
( قل : الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . أبصر به وأسمع ) . .
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم ، يقرره عالم غيب السماوات والأرض . ما أبصره ، وما أسمعه ! سبحانه . فلا جدال بعد هذا ولا مراء .
ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها : ( ما لهم من دونه من ولي . ولا يشرك في حكمه أحدا ) . .
قال قتادة ومطر الوراق وغيرهما { ولبثوا في كهفهم } الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك ، واحتجا بأن قراءة عبد الله بن مسعود ، وفي مصحفه : «وقالوا لبثوا في كهفهم » ، وذلك عند قتادة ، على غير قراءة عبد الله ، عطف على { ويقولون سبعة } [ الكهف : 22 ] ، ذكر الزهراوي ، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه رداً على مقالهم وتقييداً له ، قال الطبري : وقال بعضهم : لو كان ذلك خبراً من الله ، لم يكن لقوله { قل الله أعلم بما لبثوا } وجه مفهوم .
قال القاضي أبو محمد : أي ذهب بهذا القائل ، وما الوجه المفهوم البارع إلا أن تكون الآية خبراً عن لبثهم ، ثم قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم { قل الله أعلم بما لبثوا } فخبره هذا هو الحق من عالم الغيب فليزل اختلافكم أيها المخرصون ، وقال المحققون : بل قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم ، ثم اختلف في معنى قوله بعد الإخبار { قل الله أعلم بما لبثوا } فقال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله نبيه أن هذه المدة في كونهم نياماً ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر ، فأمره الله أن يرد علم ذلك إليه فقوله على هذا التأويل { لبثوا } الأول ، يريد في نوم الكهف ، و { لبثوا } الثاني : يريد بعد الإعثار موتى إلى مدة محمد عليه السلام ، إلى وقت عدمهم بالبلى ، على الاختلاف الذي سنذكره بعد ، وقال بعضها إنه لما قال : { وازدادوا تسعاً } لم يدر الناس أهي ساعات ، أم أيام ، أم جمع ، أم شهور ، أم أعوام . واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمره الله برد العلم إليه ، يريد في التسع فهي على هذا مبهمة ، وظاهر كلام العرب والمفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير ، وقد بقيت من الحواريين بقية ، وحكى النقاش ما معناه : أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأمم ، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين ، وقرأ الجمهور «ثلاثمائةٍ سنينَ » بتنوين مائة ونصب «سنينَ » على البدل من «ثلاثمائةٍ » ، وعطف البيان ، وقيل على التفسير والتمييز{[7786]} وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة «مائة » إلى «سنين » ، وترك التنوين ، وكأنهم جعلوا «سنين » بمنزلة سنة ، إذ المعنى بهما واحد قال أبو علي : إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب ، قد تضاف إلى الجموع ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «ثلاثمائة سنة » ، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون » ، بالواو ، وقرأ أبو عمرو بخلاف : «تَسعاً » بفتح التاء ، وقرأ الجمهور «تِسعاً » بكسر التاء .
وقوله { أبصر به وأسمع } أي ما أبصره وأسمعه .
قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، وهذه عبارات عن الإدراك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور . وأسمع به العالم ، فتكون أمرين ، لا على وجه التعجب ، وقوله { ما لهم من دونه من ولي } يحتمل أن يعود الضمير في { لهم } على أصحاب الكهف ، أي هذه قدرته وحده ، لم يواليهم غيره بتلطف لهم ، ولا اشترك معه أحد في هذا الحكم ، ويحتمل أن يعود الضمير في { لهم } على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضاً بتهديد ، وقرأ الجمهور «ولا يشرك في حكمه أحداً » بالياء من تحت على معنى الخبر عن الله تعالى ، وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري «ولا تشرك » بالتاء من فوق ، على جهة النهي للنبي عليه السلام ، ويكون قوله «ولا تشرك » عطفاً على { أبصر } { وأسمع } ، وقرأ مجاهد «ولا يشركْ » بالياء من تحت وبالجزم ، قال يعقوب لا أعرف وجهه ، وحكى الطبري عن الضحاك بن مزاحم أنه قال : نزلت هذه الآية : { ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة } فقط ، فقال الناس هي أشهر أم أيام أم أعوام ؟ فنزلت { سنين وازدادوا تسعاً } وأما هل دام أهل الكهف وبقيت أشخاصهم محفوظة بعد الموت ؟ فاختلفت الروايات في ذلك ، فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته ، مع ناس على موضع الكهف وجبله ، فمشى الناس إليه ، فوجدوا عظاماً ، فقالوا هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال لهم ابن عباس : أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة فسمعه راهب ، فقال ما كنت أحسب أن أحداً من العرب يعرف هذا ، فقيل له هذا ابن عم نبينا فسكت ، وروت فرقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال «ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف ، فإنهم لم يحجوا بعد » .
قال القاضي أبو محمد : وبالشام على ما سمعت من ناس كثير ، كهف كان فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف ، وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ، ومعهم كلب رمة ، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة ، كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه ، وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إشارة ، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة ، وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر محلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب في قبور ونحوها .
قال القاضي أبو محمد : وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل .
إن كان قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } [ الكهف : 25 ] إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب ، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم .
وإن كان قوله : { ولبثوا } حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } [ الكهف : 22 ] .
وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم . واللام في { له } للملك . وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص ، أي لله لا لغيره ، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم .
و { أبصر به وأسمع } صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات ، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد .
وضمير الجمع في قوله : { ما لهم من دونه من ولي } يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم . وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول ( من ) الزائدة على النكرة المنفية .
وكذلك قوله : { ولا يشرك في حكمه أحداً } هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه .
وقرأ الجمهور { ولا يشرك } برفع { يشرك } وبياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { قل الله أعلم } . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و { يشرك } على أن ( لا ) ناهية . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته ، أو الخطاب لكل من يتلقاه .
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها ، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 25]
اختلف أهل التأويل في معنى قوله "وَلَبَثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا "فقال بعضهم: ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله: "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" وجه مفهوم، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره... عن قتادة، قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا"، هذا قول أهل الكتاب، فردّه الله عليهم فقال: "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَواتِ والأرْضِ"...
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله، ليتساءلوا بينهم، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر، ثلاث مئة سنين وتسع سنين، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه. وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ «وَقالُوا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِم» وقول من قال ذلك من قول أهل الكتاب، وقد ردّ الله ذلك عليهم، فإن معناه في ذلك إن شاء الله؛ كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فردّ الله ذلك عليهم، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أووا إليه إلى أن بعثهم ليتساءلوا بينهم، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا، لا يعلم بذلك غير الله، وغير من أعلمه الله ذلك.
فإن قال قائل: وما يدلّ على أن ذلك كذلك؟ قيل: الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء، فقال: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" ولم يضع دليلا على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان، لأن ذلك لو جاز جاز في كل أخباره، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله: "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" دليل على أن قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ" خبر منه عن قوم قالوه، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره، فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه: قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلا على أن قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ" خبر من الله عن قوم قالوه، وإذا لم يكن دليلا على ذلك، ولم يأت خبر بأن قوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) خبر من الله عن قوم قالوه، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها، صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه...
وقوله: "لَهُ غَيْبُ السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول تعالى ذكره: لله علم غيب السموات والأرض، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يخفى عليه شيء، يقول: فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السموات والأرض، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار.
وقوله: "أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ" يقول: أبصر بالله وأسمع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه.
وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء...
وقوله: "ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ" يقول جلّ ثناؤه: ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ، يلي أمرهم وتدبيرهم، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون.
"وَلا يُشْرِكُ فِي حُكمِهِ أحَدا" يقول: ولا يجعل الله في قضائه، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل الله أعلم بم لبثوا له غيب السماوات والأرض} هو ما ذكرنا أنه جعل علم مدة لبثهم إلى الله تعالى.
{له غيب السماوات والأرض} يحتمل وجوها ثلاثة:
أحدها: له علم ما غاب عن أهل السماوات وأهل الأرض كقوله: {عالم الغيب والشهادة} (الأنعام: 73).
والثاني: له علم ما غَيَّبَ، وأَسَرَّ أهل السماوات والأرض بعضهم من بعض.
والثالث: له علم غيب ما شاهد أهل السماوات و أهل الأرض، لأن في (ما) شاهدوه من الأشياء، وعاينوها، غيبا وسرية لم يعلموه من نحو الشمس شاهدوها، وعرفوا أنها شمس، ولكن لم يعلموا ما فيها من المعنى الذي به صلاح الأشياء ومنافعها، وكذلك القمر. وإنما شاهدوا هذه الأشياء، ولكن لم يعرفوا المعنى الذي به، صارت نافعة للأشياء. وكذلك السمع والبصر والعقل ونحوها من الحواس عرفوا هذه الحواس على ظواهرها، ولكن لا يعرفون المعنى الذي يستمعون، ويبصرون، ويفهمون، فيقول: له علم ما غاب عنكم من هذه الأشياء التي شاهدتموها، والله أعلم.
{أبصر به وأسمع} هذا كلام يتكلم عن النهاية والغاية والبلاغ من الوصف. ويقال: أكرم به من فلان إذا كان بلغ الكرم به غايته. وكذلك يقال: أحسن به من فلان إذا بلغ في الحسن غايته. ونحوه. فعلى ذلك قوله: {أبصر به وأسمع} هو وصف له على النهاية كما يقال: ما أعلمه، وما أبصره، وما أكرمه، وما أحسنه في العلم، إنه يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوا و {أبصر به} من الأفعال التي يفعلون و {أسمع} به من الأقوال التي يَتَفَوَّهُونَ، أي يعلم ما غاب عنهم مما لم يفعلوا، ولم يقولوا: فالذي قالوه، وفعلوه أحق أن يعلم. يحذرهم عز و جل عن أفعالهم، والله الموفق.
يحتمل: ولا يشرك في ألوهيته أحدا.
ويحتمل: {ولا يشرك في حكمه أحدا} أي الحكم له، ليس لأحد دونه حكم، إنما عليهم طلب حكم الله في ما يحكمون. أو لا يشرك في تقديره وتدبيره الذي يدبر في خلقه أحدا.
ويحتمل {ولا يشرك في} قسمته التي يَقْسِمُ بين الخلق أحدا {ولا يشرك في حكمه} أي في ما جاءت به الرسل، ودعت الخلق إليه {أحدا}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.
{مَّا لَهُم} الضمير لأهل السموات والأرض {مِن وَلِي} من متول لأمورهم.
{وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ} في قضائه {أَحَدًا} منهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فقال على طريق الجواب لسؤال من يقول: فإن قال أحد غير هذا فما يقال له؟ {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم} منكم {بما لبثوا} ثم علل ذلك بقوله تعالى: {له} أي وحده {غيب السماوات والأرض} يعلمه كله على ما هو عليه، ولا ينسى شيئاً من الماضي ولا يعزب عنه شيء من الحاضر، ولا يعجز عن شيء من الآتي، فلا ريب فيما يخبر به.
ولما كان السمع والبصر مناطي العلم، وكان متصفاً منهما بما لا يعلمه حق علمه غيره، عجب من ذلك بقوله تعالى: {أبصر به وأسمع} ولما كان القائم بشيء قد يقوم غيره مقامه إما بقهر أو شرك، نفى ذلك فانسد باب العلم عن غيره إلا من جهته فقال تعالى: {ما لهم} أي لهؤلاء السائلين ولا المسؤولين الراجمين بالغيب في أصحاب الكهف {من دونه} وأعرق بقوله تعالى: {من ولي} يجيرهم منه أو يخبرهم بغير ما أخبر به {ولا يشرك} أي الله {في حكمه أحداً} فيفعل شيئاً بغير أمره أو يخبر بشيء من غير طريقه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم، يقرره عالم غيب السماوات والأرض. ما أبصره، وما أسمعه! سبحانه. فلا جدال بعد هذا ولا مراء. ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها: (ما لهم من دونه من ولي. ولا يشرك في حكمه أحدا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وضمير الجمع في قوله: {ما لهم من دونه من ولي} يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم. وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول (من) الزائدة على النكرة المنفية. وكذلك قوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه...
وقرأ الجمهور {ولا يشرك} برفع {يشرك} وبياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {قل الله أعلم}. وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و {يشرك} على أن (لا) ناهية. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه. وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
قوله تعالى: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ}...
الوَلِيُّ: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. فالإيمان سببٌ يوالي به المؤمنين ربُّهم بالطاعة، ويُواليهم به الثوابَ والنصرَ والإعانةَ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} فليس لغيره الولاية عليهم، بل الولاية له وحده، فكل ما في الكون محتاجٌ إلى ولايته وخاضعٌ له، لأنه الخالق للحياة كلها وللإنسان كله، وهو الذي يمدُّها ويمده بقابلية الاستمرار من خلال ما يفيض عليها وعليه من نعمه التي هي الشرط الأساسي للبقاء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى: (ولا يُشرك في حكمه أحداً). هذا الكلام هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلَّ وعلا، إِذ ليسَ هُناك قدرة أُخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين، ولا يوجد شريك له تعالى في ولايته، يعني ليس ثمّة قدرة أُخرى غير الله لها حق الولاية في العالم، لا بالاستقلال ولا بالاشتراك...