{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ }
أي : { لَيْسَ ْ } الأمر والنجاة والتزكية { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ْ } والأماني : أحاديث النفس المجردة عن العمل ، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها . وهذا عامّ في كل أمر ، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية ؟ !
فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ } وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى .
وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف ، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان ، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه ، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ } وهذا شامل لجميع العاملين ، لأن السوء شامل لأي ذنب كان{[242]} .
من صغائر الذنوب وكبائرها ، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير ، دنيوي أو أخروي .
والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله ، فمستقل ومستكثر ، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا . فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم .
ومن كان عمله صالحا ، وهو مستقيم في غالب أحواله ، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [ بعض ]{[243]}
الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب ، وهي مما يجزى به على عمله ، قيضها الله لطفا بعباده ، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة .
وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، كما دلت على ذلك النصوص .
وقوله : { وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ } لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه ، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك ، فليس له ولي يحصل له المطلوب ، ولا نصير يدفع عنه المرهوب ، إلا ربه ومليكه .
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء . . إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني . إنه يرجع إلى أصل ثابت ، وسنة لا تتخلف ، وقانون لا يحابي . قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة ، وتخالف من أجله السنة ، ويعطل لحسابه القانون . . إن صاحب السوء مجزى بالسوء ؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة . ولا محاباة في هذا ولا مماراة :
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . . ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ، ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) .
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . . وكانوا يقولون : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) . . وكان اليهود ولا يزالون يقولون : إنهم شعب الله المختار !
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . .
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم :
( ومن يعمل سوء ا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا ) . .
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية ؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا . مهما صلحت ، ومهما عملت من حسنات .
كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم . . لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها ؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها ؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا ، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه . ومن ثم ارتجفت نفوسهم ، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به . ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها ، وهذه كانت ميزتهم . أن يحسوا الآخرة على هذا النحو ، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها . لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب ! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد !
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالله بن نمير ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير ، قال : " أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال : " يا رسول الله ، كيف الفلاح بعد هذه الآية ؟ ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءا يجز به ) . . فكل سوء عملناه جزينا به . . فقال النبى [ ص ] : " غفر الله لك يا أبا بكر . ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال بلى ! قال : " فهو مما تجزون به " . . [ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل . ]
وروى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى ابن عمر ، يحدث عن أبى بكر الصديق . قال : كنت عند النبى [ ص ] فنزلت هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا )فقال رسول الله [ ص ] : " يا أبا بكر ، ألا أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت يا رسول الله فأقرأنيها . . فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري ، حتى تمطيت لها ! فقال رسول الله [ ص ] : " مالك يأ أبا بكر ؟ " فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ! فقال رسول الله [ ص ] : " أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا ، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . [ وكذا رواه الترمذي ] .
وروى ابن أبى حاتم - بإسناده - عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله إنى لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : ( من يعمل سوءا يجز به )فقال . " ما يصيب العبد المؤمن ، حتى النكبة ينكبها " . [ ورواه ابن جرير ] .
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة - بإسناده - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به )شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله [ ص ] : " سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة . حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " . .
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء . ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية ، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى . ولقد هزت هذه الآية كيانهم ، ورجفت لها نفوسهم ، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا . ويعرفون صدق وعد الله حقا . ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا .
{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا بأماني أهل الكتاب ، وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح . وقيل ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . روي أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا . فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولي بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة ) فنزلت . وقيل : الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي : ليس الأمر بأماني المشركين ، وهو قولهم لا جنة ولا نار ، وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا ، ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } ثم قرر ذلك وقال : { من يعمل سوءا يجز به } عاجلا أو آجلا لما روي ( أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام : " أما تحزن أما تمرض أما يصيبك الأراء ؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : هو ذاك ) . { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه .
اسم { ليس } مضمر{[4293]} ، و «الأماني » : جمع أمنوية ، وزنها أفعولة ، وهي : ما يتمناه المرء ويطيع نفسه فيه ، وتجمع على أفاعيل ، فتجتمع ياءان فلذلك تدغم إحداهما في الأخرى فتجيء مشددة وهي قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج ، «ليس بأمانيكم » ساكنة الياء ، وكذلك في الثانية{[4294]} ، قال الفراء : هذا جمع على فعاليل ، كما يقال قراقير وقراقر إلى غير ذلك . واختلف الناس فيمن المخاطب بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس والضحاك وأبو صالح ومسروق وقتادة والسدي وغيرهم : الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : وسبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : ديننا أقدم من دينكم وأفضل ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن أفضل منكم ، وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم النبيين ، أو نحو هذا من المحاورة ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد وابن زيد : بل الخطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولا نعذب ، وإنما هي حياتنا الدنيا لنا فيها النعيم ثم لا عذاب ، وقالت اليهود { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ، إلى نحو هذا من الأقوال ، كقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى }{[4295]} ، وغيره ، فرد الله تعالى على الفريقين بقوله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } ثم ابتدأ الخبر الصادق من قبله بقوله { من يعمل سوءاً يجز به } وجاء هذا اللفظ عاماً في كل سوء فاندرج تحت عمومه الفريقان المذكوران ، واختلف المتأولون في تعميم لفظ هذا الخبر ، فقال الحسن بن أبي الحسن : هذه الآية في الكافر ، وقرأ { وهل يجازى إلا الكفور }{[4296]} قال : والآية يعني بها الكفار ، ولا يعني بها أهل الصلاة ، وقال : والله ما جازى الله أحداً بالخير والشر إلا عذبه ، ولكنه يغفر ذنوب المؤمنين ، وقال ابن زيد : في قوله تعالى { من يعمل سوءاً يجز به } وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك يعني المشركين ، وقال الضحاكَ { ومن يعمل سوءاً يجز به } يعني بذلك اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : فهذا تخصيص للفظ الآية ، ورأى هؤلاء أن الكافر يجزى على كل سوء يعمله وأن المؤمن قد وعده الله تكفير سيئاته ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : قوله تعالى : { من يعمل سوءاً } معناه ، من يك مشركاً والسوء هنا الشرك فهو تخصيص لعموم اللفظ من جهة أخرى ، لأن أولئك خصصوا لفظ { من } ، وهذان خصصا لفظ ( السوء ) وقال جمهور الناس : لفظ الآية عام ، والكافر والمؤمن مجازى بالسوء يعمله ، فأما مجازاة الكافر فالنار ، لأن كفره أوبقه ، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به } قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية ، فقال : يا أبا بكر أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء ؟ فهذا بذلك{[4297]} ، وقال عطاء بن أبي رباح : لما نزلت هذه الآية ، قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما هي المصيبات في الدنيا ){[4298]} ، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها{[4299]} ، وقال أبيّ بن كعب ، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها ، فقال له أبيّ : ما كنت أظنك إلا أفقه مما رأى ، ما يصيب الرجل خدش ولا غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فالعقيدة في هذا : أن الكافر مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالباً ، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو في المشيئة ، يغفر الله لمن يشاء ، ويجازي من يشاء ، وقرأ الجمهور «ولا يجدْ » بالحزم عطفاً على { يجز } ، وروى ابن بكار عن ابن عامر : «ولا يجدُ » بالرفع على القطع ، وقوله { من دون } لفظة تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة ، ويفسرها بعض المفسرين بغير ، وهو تفسير لا يطرد .
الأظهر أنّ قوله : { ليس بأمانيكم } استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال ، والتشويه بمساويها ، وأنّ في ( ليس ) ضميراً عائداً على الجزاء المفهوم من قوله : { يجز به } ، أي ليس الجزاء تابعاً لأماني الناس ومشتهاهم ، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديراً بحسب الأعمال ، وممّا يؤيّد أن يكون قوله : { ليس بأمانيكم } استئنافاً ابتدائياً أنّه وقع بعد تذييل مُشعر بالنهاية وهو قوله : { ومن أصْدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] . ومِمّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاماً في الضمير ، ثم بياناً له بالحملة بعده ، وهي : { من يعمل سوءاً يجز به } ؛ وأنّ فيه تقديم جملة { ليس بأمانيكم } عن موقعها الذي يُترقّب في آخر الكلام ، فكان تقديمها إظهاراً للاهتمام بها ، وتهيئةً لإبهام الضمير . وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم . وجملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئناف بياني ناشىء عن جملة { ليس بأمانيكم } لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل . ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه . وجعل صاحب « الكشاف » الضمير المستتر عائداً على وعد الله ، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم ؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالاً من { وعْدَ الله } [ النساء : 122 ] ، وتكون جملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئنافاً ابتدائياً محضاً .
روي الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح ، وروى ابن جرير بسنده إلى مسروق ، وقتادةَ ، والسدّي ، والضحاك ، وبعضُ الروايات يزيد على بعض ، أنّ سبب نزولها : أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، كلّ فريق يقول للآخرين : نحن خير منكم ، ويحتجّ لذلك ويقول : لن يدخل الجنة إلاّ من كان على ديننا . فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله ، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى ، فبطل قول النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة ، فبطل قول المسلمين واليهود : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكماً فصلاً بين الفرق ، وتعليماً لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح ، وتوفّر العمل الصالح معه ، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } . ثم إنّ الله لَوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله : { وهو مؤمن } فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ ، فهو كالعدم ، فعقّب هذه الآية بقوله : { ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه الله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً }
[ النساء : 125 ] . والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين ، لا لأنّ أمانيّهم كذلك ، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم . وعن عكرمة : قالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان منّا . وقال المشركون : لا نُبْعث .
والباء في قوله : { بأمانيكم } للملابسة ، أي ليس الجزاء حاصلاً حصولاً على حسب أمانيّكم ، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية .
والأمانيّ جمع أمنية ، وهي اسم للتمنّي ، أي تقدير غير الواقع واقعاً . والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ } في سورة البقرة ( 78 ) . وكأنَّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد ، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به . وما وافقه هو الحقّ ، والمقصد المهمّ هو قوله : { ولا أمانيّ أهل الكتاب } على نحو : { وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] فإنّ اليهود كانوا في غرور ، يقولون : لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة . وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله : { وقالوا لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] { تلك أمانيّهم } [ البقرة : 111 ] . أمّا المسلمون فمُحاشون من اعتقاد مثل ذلك .
وقيل : الخطاب لكفار العرب ، أي ليس بأمانيّ المشركين ، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله ، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله ، وهو محمل للآية .
وقوله : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } زيادة تأكيد ، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحداً يغني عن عذاب الله .
والوليّ هو المولى ، أي المشارك في نسب القبيلة ، والمراد به المدافع عن قريبه ، والنصيرُ الذي إذا استنجدته نصرَك ، أو الحليف ، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين .