6- النبي - محمد - أحق ولاية بالمؤمنين ، وأرحم بهم من نفوسهم ، فعليهم أن يحبوه ويطيعوه ، وأزواجه أمهاتهم في التوقير وحرمة التزوج بهن بعده ، وذوو القرابات أولى من المؤمنين والمهاجرين بأن يتوارثوا فيما بينهم فرضا في القرآن . لكن يجوز أن تقدموا إلى مَنْ وَاليتم في الدين من غير الأقارب معروفاً ، فتعطوه - براً وعطفاً عليه - أو توصوا له بجزء من مالكم . كان ذلك التوارث بالأرحام في الكتاب مقررا لا يعتريه تبديل .
{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
يخبر تعالى المؤمنين ، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم ، فرسول اللّه ، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا على يديه وبسببه .
فلذلك ، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنًا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه .
وهو صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده .
فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان قبل يُدْعَى : " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه ، وانتسابه منه ، فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف .
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما الله صرح{[4]} بذلك : " وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا "
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ أي ]{[5]} : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضًا ، ويبر بعضهم بعضًا ، فهم أولى من الحلف والنصرة .
والأدعياء الذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام ، فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفًا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك ، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح ، والمال ، وغير ذلك .
{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ليس لهم حق مفروض ، وإنما هو بإرادتكم ، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا ، وتعطوهم معروفًا منكم ، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره اللّه ، فلا بد من نفوذه .
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني . ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا ؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة ، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم . . وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي[ صلى الله عليه وسلم ] وتقديمها على جميع ولايات النسب ؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين :
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم ؛ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، فارين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى ، وذخائر المال ، وأسباب الحياة ، وذكريات الطفولة والصبا ، ومودات الصحبة والرفقة ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، متخلين عن كل ما عداها . وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو ، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس ، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة ، واستيلائها على القلب ، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة . وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى . فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت ، وظل آخرون فيها على الشرك . فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم . ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية ؛ وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية .
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا ، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس ، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة .
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطي على كل العواطف والمشاعر ، وكل الأوضاع والتقاليد ، وكل الصلات والروابط . لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة ؛ فتقوم بينها مقام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام ، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة . لا بنصوص التشريع ، ولا بأوامر الدولة ؛ ولكن بدافع داخلي ومد شعوري . يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية . وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع .
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار ، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ؛ فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم ، وفي أموالهم . وتسابقوا إلى إيوائهم ؛ وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة . إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار . وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس ، وطيب خاطر ، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري ، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة !
وآخى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار . وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد . وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم ، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها .
وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية ؛ وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة . بل بما هو أكثر . وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها .
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف ، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة ، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها . وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية .
وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري ، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما ، مستعدة للفيضان . لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية ، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية ، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ؛ ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي ، وللنظام العادي ، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة .
ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار ، ووجود أسباب معقولة للارتزاق ، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى ، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم . . عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب ، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر ، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة . ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية . فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم ، بل على قرابة النفس ! : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) . . وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالنسبة لجميع المؤمنين : ( وأزواجه أمهاتهم ) . .
وولاية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] أحب إليهم من أنفسهم . فلا يرغبون بأنفسهم عنه ؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته ! جاء في الصحيح : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " . وفي الصحيح أيضا أن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " الآن يا عمر " .
وليست هذه كلمة تقال ، ولكنها مرتقى عال ، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء ؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب . فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور ، وفوق ما يدرك ! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوع مشاعره ، وراض نفسه ، وخفض من غلوائه في حب ذاته ، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها ، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى ! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه ، فإن ملكه كمن في مشاعره ، وغار في أعماقه ! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ؛ ولكنه يصعبعليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها ، أو عيبا لشيء من خصائصها ، أو نقدا لسمة من سماتها ، أو تنقصا لصفة من صفاتها . وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره ! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية ؛ أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة ، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته . وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويكفي أن عمر - وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم . جاء في الصحيح . . " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " . والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا .
وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية . مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء . فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته ؛ أو أن يهبه في حياته . . ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) . .
ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى ، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . . فتقر القلوب وتطمئن ؛ وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم .
بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية ؛ وتسير في يسر وهوادة ؛ ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد .
ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان ، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة .
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها . روي أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت . وقرئ " وهو أب لهم " أي في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون أخوة { وأزواجه أمهاتهم } منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء { وأولوا الأرحام } وذوو القرابات . { بعضهم أولى ببعض } في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام في التوارث بالهجرة والموالاة في الدين . { في كتاب الله } في اللوح أو فيما أنزل ، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله . { من المؤمنين والمهاجرين } بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لأولي أي أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة . { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع { وكان ذلك في الكتاب مسطورا } كان ما ذكر في الآيتين ثابتا في اللوح أو القرآن . وقيل في التوراة .
وقوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين } الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[9455]} ، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }{[9456]} » ، وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤيد هذا قوله عليه السلام «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش »{[9457]} .
وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات ، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم . وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » ، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » ، وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها ، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليه السلام : { هؤلاء بناتي }{[9458]} [ هود : 78 ] إنما أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن .
ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين{[9459]} ، اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته ، ورد الله تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة ، وقوله تعالى : { في كتاب الله } يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى : { من المؤمنين } متعلق ب { أولى } الثانية{[9460]} ، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا ، وقوله تعالى : { إلا أن تفعلوا } يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه ، والقريب الكافر يوصي له بوصية{[9461]} ، واختلف العلماء هل يجعل هو وصياً ، فجوز بعض ومنع بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، وذهب مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم لفظ الولي أيضاً حسن كما قدمناه ، إذ ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .
و { الكتاب } الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ، و { مسطوراً } من قولك سطوت الكتاب إذا أثبته إسطاراً ومنه قول العجاج :
«في الصحف الأولى التي كان سطراً{[9462]} » ،