20- وإذا كان المشركون يعيبونك - أيها النبي - بأكلك الطعام ومشيك في الأسواق للعمل والكسب فتلك سنة الله في المرسلين من قبلك ، ما أرسلنا أحداً منهم إلا كان يأكل الطعام ويتردد في الأسواق . وجعلنا بعضكم - أيها الناس - ابتلاء لبعض ، والمفسدون يحاولون سد الطريق إلي الهداية والحق بشتى الأساليب ، فهل تصبرون على حقكم - أيها المؤمنون - وتتمسكون بدينكم حتى يأتي أمر الله بالنصر ؟ اصبروا فالله مطلع على كل شيء ويجازى كلا بما عمل .
ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الْأَسْوَاقِ } فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما جعلناهم ملائكة ، فلك فيهم أسوة ، وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى كما قال : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين{[576]} والرسل فتناهم بدعوة الخلق ، والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني ، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار .
والقصد من تلك الفتنة { أَتَصْبِرُونَ } فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم{[577]} أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة ؟
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } يعلم أحوالكم ، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
والآن وقد شهدوا وشهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نهاية الافتراء والتكذيب والاستهزاء . ونهاية الاعتراض على بشرية الرسول وأكله الطعام ، مشيه في الأسواق . . الآن يعود إلى الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يسليه ويؤسي ، بأنه لم يكن بدعا من الرسل ، فكلهم يمشون على سواء :
( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة . أتصبرون ? وكان ربك بصيرا ) . .
فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه . إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله . سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) . ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره . وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره . ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر . وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء : ( أتصبرون ? ) . . ( وكان ربك بصيرا ) . بصيرا بالطبائع والقلوب ، والمصائر والغايات . ولهذه الإضافة هنا ( وكان ربك )إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب . . والله بصير بمداخل القلوب . .
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذي به { وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } أي : للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة [ القاهرة ]{[21439]} ، ما يستدل به كل ذي لب سليم ، وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] .
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي ؛ ولهذا قال : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي : بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ، ومن لا يستحق ذلك .
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم ، وأبتليهم{[21440]} بهم .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : إني مُبْتَلِيك ، ومُبْتَلٍ بك " {[21441]} . وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة " ، وفي الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق } .
هذا رد على قولهم : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] بعد أن رد عليهم قولهم { أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } [ الفرقان : 8 ] بقوله : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } [ الفرقان : 10 ] ، ولكن لما كان قولهم : { أو يلقى إليه كنز } حالة لم تعط للرسل في الحياة الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيراً من ذلك في الآخرة .
وأما قولهم : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له ، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر ، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد قالوا : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] ، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس . وقد قال موسى { موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [ طه : 59 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم .
وجملة : { ليأكلون الطعام } في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال . والتقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حاللٍ إلا في حال { إنهم ليأكلون الطعام } . والتوكيد ب ( إن ) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلاً للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي : إلاّ ، وإنّ ، واللام ، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] ، وقوله : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } [ الشعراء : 208 ] .
وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية .
ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثاً فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك .
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } .
تذييل ، فضمير الخطاب في قوله : { بعضكم } يعم جميع الناس بقرينة السياق . وكلا البعضين مبهم يبينه المقام . وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف ، فبعضها فتنة في العقيدة ، وبعضها فتنة في الأمن ، وبعضها فتنة في الأبدان .
والإخبار عنه ب { فتنة } مجازي لأنه سبب الفتنة ، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه ، والبعض الآخر المشركين ؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم ، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأضرابهم يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة .
وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذين آمنوا بك فقال : { وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون } [ هود : 29 ، 30 ] .
وقال تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بَيْنِنا أليس الله بأعلمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] .
والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام ، ولذلك عقب بقوله : { أتصبرون } ، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] .
وموقع { وكان ربك بصيراً } موقع الحث على الصبر المأمور به ، أي هو عليم بالصابرين ، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم .
وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافاً إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن الرب لا يضيع أولياءه كقوله : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 97 99 ] أي النصر المحقق .