ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملا ، لا يرسل إليهم رسولا ، ولا ينزل عليهم كتابا ، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال :
{ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } أي : أفنعرض عنكم ، ونترك إنزال الذكر إليكم ، ونضرب عنكم صفحا ، لأجل إعراضكم ، وعدم انقيادكم له ؟ بل ننزل عليكم الكتاب ، ونوضح لكم فيه كل شيء ، فإن آمنتم به واهتديتم ، فهو من توفيقكم ، وإلا قامت عليكم الحجة ، وكنتم على بينة من أمركم .
ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم ، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف :
( أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ? ) . .
ولقد كان عجيباً - وما يزال - أن يعنى الله سبحانه - في عظمته وفي علوه وفي غناه - بهذا الفريق من البشر ، فينزل لهم كتاباً بلسانهم ، يحدثهم بما في نفوسهم ، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم ، ويبين لهم طريق الهدى ، ويقص عليهم قصص الأولين ، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين . . ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون !
وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته ، جزاء إسرافهم القبيح !
وقوله : { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } اختلف المفسرون في معناها ، فقيل : معناها : أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به ؟ قاله ابن عباس ، ومجاهد وأبو صالح ، والسدي ، واختاره ابن جرير . {[25988]}
وقال قتادة في قوله : { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } : والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل {[25989]} هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته ، وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة ، أو ما شاء الله من ذلك .
وقول قتادة لطيف المعنى جدا ، وحاصله أنه يقول في معناه : أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر{[25990]} الحكيم - وهو القرآن - وإن كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل أمر{[25991]} به ليهتدي من قَدّر هدايته ، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته .
{ أفنضرب عنكم الذكر صفحا } أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، قال طرفة :
اضرب عنك الهموم طارقها *** ضربك بالسيف قونس الفرس
والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب { عنكم الذكر } ، و{ صفحا } مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين ، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك . وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفا ويؤيده أنه قرئ " صفحا " . بالضم ، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين ، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه . { أن كنتم قوما مسرفين } أي لأن كنتم ، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي { إن } بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالا لهم ، وما قبلها دليل الجزاء .
الفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري على جملة { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [ الزخرف : 3 ] ، أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن . فلما أريدت إعادة تذكيرهم وكانوا قد قدم إليهم من التذكير ما فيه هديهم لو تأملوا وتدبروا ، وكانت إعادة التذكير لهم موسومة في نظرهم بقلة الجدوى بيّن لهم أن استمرار إعراضهم لا يكون سبباً في قطع الإرشاد عنهم لأن الله رحيم بهم مريد لصلاحهم لا يصده إسرافهم في الإنكار عن زيادة التقدم إليهم بالمواعظ والهَدي .
والاستفهام إنكاري ، أي لا يجوز أن نضرب عنكم الذكر صفحاً من جراء إسرافكم .
والضرب حقيقته قرع جسم بآخر ، وله إطلاقات أشهرها : قرع البعير بعصا ، وهو هنا مستعار لمعنى القطع والصرف أخذاً من قولهم : ضَرَبَ الغرائبَ عن الحَوْضضِ ، أي أطردَها وصرفها لأنها ليست لأهل الماء ، فاستعاروا الضرب للصرف والطرد ، وقال طرفة :
أضْرِبَ عنك الهمومَ طارقَها *** ضَرْبَك بالسَّيْفِ قَوْنَس الفَرَس{[372]}
والذكر : التذكير ، والمراد به القرآن .
والصَّفح : الإعراض بِصَفْح الوجه وهو جانبُه وهو أشد الإعراض عن الكلام لأنه يجْمع تركَ استماعه وتركَ النظر إلى المتكلم .
وانتصب { صفحاً } على النيابة عن الظرف ، أي في مكان صَفْح ، كما يقال : ضَعْهُ جانباً ، ويجوز أن يكون { صفحاً } مصدر صَفَح عن كذا ، إذا أعرض ، فينتصب على المفعول المطلق لبيان نوع الضرب بمعنى الصرف والإعراض .
والإسراف : الإفراط والإكثار ، وأغلب إطلاقه على الإكثار من الفعل الضائر . ولذلك قيل « لا سرَف في الخير » والمقام دال على أنّهم أسرفوا في الإعراض عن القرآن .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف { إن كنتم } بكسر همزة { إنْ } فتكون { إنْ } شرطية ، ولما كان الغالب في استعمال { إِنْ } الشرطية أن تقع في الشرط الذي ليس متوَقعاً وقوعُه بخلاف ( إِذَا ) التي هي للشرط المتيقن وقوعه ، فالإتْيَان ب { إنْ } في قوله : { إنْ كنتم قوماً مسرفين } لقصد تنزيل المخاطبين المعلوم إسرافهم منزلة من يُشَك في إسرافه لأن توفر الأدلّة على صدق القرآن من شأنه أن يزيل إسرافهم وفي هذا ثقة بحقّيّة القرآن وضَرب من التوبيخ على إمعانهم في الإعراض عنه . وقرأه ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بفتح الهمزة على جعل { أنْ } مصدرية وتقديرِ لام التعليل محذوفاً ، أي لأجل إسرافكُم ، أي لا نترك تذكيركم بسبب كونكم مسرفين بل لا نزال نعيد التذكير رحمة بكم .
وإقحام { قوماً } قبل { مسرفين } للدلالة على أن هذا الإسراف صار طبعاً لهم وبه قِوام قوميتهم ، كما قدمناه عند قوله تعالى : { لآياتتٍ لقوممٍ يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.