34- إن الله يثبت عنده علم الساعة فلا يعلمها أحد سواه ، وينزل المطر في موعده الذي ضربه له ، ويعلم ما في الأرحام ، أى يعلم مصير هذا الخارج من الأرحام إلى الدنيا بين الشقاء والسعادة ، وبين التوفيق والخذلان ، وبين مقدار إقامته في الدنيا وخروجه منها . وما تعلم نفس بارة أو فاجرة ما تكسبه في غدها من خير أو شر ، وما تعلم نفس ببقعة الأرض التي فيها ينقضي أجلها ، لأن الله تام العلم والخبرة لكل شيء ، ولا يظهر على غيبه أحداً .
{ 34 } { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، وقد يطلع اللّه عباده على كثير من الأمور الغيبية ، وهذه [ الأمور ]{[678]} الخمسة ، من الأمور التي طوى علمها عن جميع المخلوقات ، فلا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : يعلم متى مرساها ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } الآية .
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } أي : هو المنفرد بإنزاله ، وعلم وقت نزوله .
{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } فهو الذي أنشأ ما فيها ، وعلم ما هو ، هل هو ذكر أم أنثى ، ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه : هل هو ذكر أم أنثى ؟ فيقضي اللّه ما يشاء .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } من كسب دينها ودنياها ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } بل اللّه تعالى ، هو المختص بعلم ذلك جميعه .
ولما خصص هذه الأشياء ، عمم علمه بجميع الأشياء فقال : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } محيط بالظواهر والبواطن ، والخفايا والخبايا ، والسرائر ، ومن حكمته التامة ، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد ، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك .
وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة ، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا ، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب . ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها ، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب .
( إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت . إن الله عليم خبير ) . .
والله - سبحانه - قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه ؛ ليبقى الناس على حذر دائم ، وتوقع دائم ، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها ، وهم لا يعلمون متى تأتي ، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة ، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد ، وكنز الرصيد .
والله ينزل الغيث وفق حكمته ، بالقدر الذي يريده ؛ وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله ؛ ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه . والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث ، لأنه سبحانه هو المنشىء للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه . فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة . كما هو ظاهر من النص . وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله . و إن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن . فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان .
( ويعلم ما في الأرحام ) . . اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر( الساعة )فهو سبحانه الذي يعلم وحده . علم يقين . ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور . من فيض وغيض . ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم . ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى ، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة . وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته . . فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى .
( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) . . ماذا تكسب من خير وشر ، ومن نفع وضر ، ومن يسر وعسر ، ومن صحة ومرض ، ومن طاعة ومعصية . فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه ؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة . و هو غيب مغلق ، عليه الأستار . والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب ، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار .
وكذلك : ( وما تدري نفس بأي أرض تموت )فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار .
وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة ، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود ، وعجزها الواضح ، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة . وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس . ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا ! بل ماذا يكون اللحظة التالية . وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله .
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة . .
رقعة فسيحة في الزمان والمكان ، وفي الحاضر الواقع ، والمستقبل المنظور ، والغيب السحيق . وفي خواطر النفس ، و وثبات الخيال : ما بين الساعة البعيدة المدى ، والغيث البعيد المصدر ، وما في الأرحام الخافي عن العيان . والكسب في الغد ، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول . . وموضع الموت والدفن ، وهو مبعد في الظنون .
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء . ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها ، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول ؛ ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة ، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ، ولانكشف القاصي منها والدان . . ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان ، لأنها فوق مقدور الإنسان ، و وراء علم الإنسان . تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره ، إلا بإذن منه وإلا بمقدار . ( إن الله عليم خبير )وليس غيره بالعليم ولا بالخبير . .
وهكذا تنتهي السورة ، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد . ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة ، الشاملة الشاسعة ، وئيد الخطى لكثرة ما طوف ، ولجسامة ما يحمل ، ولطول ما تدبر وما تفكر ، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات !
وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية . فتبارك الله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . .
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها ، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها ؛ فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب ، { لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومَنْ شاء الله من خلقه . وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه [ الله ]{[22996]} تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى ، أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك ، ومَنْ شاء الله من خلقه . وكذلك لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان ، لا علم لأحد بذلك . وهذه شبيهة بقوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } الآية [ الأنعام : 59 ] . وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس : مفاتيح الغيب .
قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين بن واقد ، حدثني عبد الله بن بُرَيدة ، سمعت أبي - بُرَيدة -{[22997]} يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }{[22998]} .
هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجوه .
حديث ابن عمر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر{[22999]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {[23000]} مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه في " كتاب الاستسقاء " من صحيحه ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، به{[23001]} . ورواه في التفسير من وجه آخر فقال :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر : أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مفاتيح الغيب خمس " . ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } انفرد به أيضا {[23002]} .
ورواه الإمام أحمد عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن عمر بن محمد ؛ أنه سمع أباه يحدث ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }{[23003]} .
[ حديث ابن مسعود ، رضي الله عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، حدثني عمرو بن مُرَّة ، عن عبد الله بن سلمة قال : قال عبد الله{[23004]} : أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ] {[23005]} {[23006]} .
وكذا رواه عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، به . وزاد في آخره : قال : قلت له : أنت سمعته من عبد الله ؟ قال : نعم . أكثر من خمسين مرة{[23007]} .
ورواه أيضا عن وَكِيع ، عن مِسْعَر ، عن عمرو بن مرة به{[23008]} .
وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ولم يخرجوه .
حديث أبي هريرة : قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق ، عن جرير ، عن أبي حيان ، عن أبي زُرْعَةَ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه{[23009]} ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس ، إذ أتاه رجل يمشي ، فقال : يا رسول الله ، ما الإيمان ؟ قال : «الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ، وتؤمن بالبعث الآخر » . قال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : «الإسلام : أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان » . فقال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : «الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » . قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الأمَةُ رَبَّتَهَا ، فذاك من أشراطها . وإذا كان الحفاة العُرَاة رؤوس الناس ، فذاك من أشراطها ، في خمس لا يعلمهن{[23010]} إلا الله . { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } ، ثم انصرف الرجل فقال : «ردُّوه عَلَيَّ » . فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئًا ، فقال : «هذا جبريل ، جاء ليعلم الناس دينهم »{[23011]} .
ورواه البخاري أيضا في " كتاب الإيمان " ، ومسلم من طرق ، عن أبي حيان ، به{[23012]} . وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري . وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله ، وهو من أفراد مسلم{[23013]} .
حديث ابن عباس : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شَهْر ، حدثنا عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا له ، فأتاه جبريل فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم{[23014]} واضعا كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، [ حدثني ]{[23015]} ما الإسلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل ، وتشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله " . قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال : " إذا فعلت ذلك فقد أسلمت " . قال : يا رسول الله ، فحدِّثني ما الإيمان ؟ قال : " الإيمان : أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، وتؤمن بالموت ، وبالحياة بعد الموت ، وتؤمن بالجنة والنار ، والحساب والميزان ، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره " . قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال : " إذا {[23016]} فعلت ذلك فقد آمنت " . قال : يا رسول الله ، حدثني ما الإحسان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك " . قال : يا رسول الله ، فحدثني متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله . في خمس لا يعلمهن إلا هو :{[23017]} { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ، ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك ؟ " . قال : أجل ، يا رسول الله ، فحدثني . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيت الأمَة ولدت رَبَّتَها - أو : ربها - ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان ، ورأيت الحفاة الجياع العالة [ كانوا رؤوس الناس ، فذلك من معالم الساعة وأشراطها " . قال : يا رسول الله ، ومَنْ أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة ؟ قال : " العرب " ]{[23018]} {[23019]}( 10 ) .
حديث رجل من بني عامر : روى الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن رِبْعي بن حِرَاش ، عن رجل من بني عامر ؛ أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : " اخرُجي إليه ، فإنه لا يحسن الاستئذان فقولي له : فليقل : " السلام عليكم ، أأدخل ؟ " قال : فسَمعتهُ يقول ذلك ، فقلت : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن ، فدخلت ، فقلت : بم أتيتنا به ؟ قال : " لم آتكم إلا بخير ، أتيتكم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأن تَدَعوا اللات والعزى ، وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات ؛ وأن تصوموا من السنة شهرًا ، وأن تحجوا البيت ، وأن تأخذوا الزكاة من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم " . قال : فقال : فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه ؟ قال : " قد عَلم الله عز وجل خيرًا ، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل : الخمس : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } . {[23020]} وهذا إسناد صحيح .
وقال ابن أبي نَجِيِح ، عن مجاهد : جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى ، فأخبرني ما تلد ؟ وبلادنا جَدبَةٌ ، فأخبرني متى ينزل الغيث ؟ وقد عَلمتُ متى وُلدتُ فأخبرني متى أموت ؟ فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [ وَيُنزلُ الْغَيْثَ ] } {[23021]} ، إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } . قال مجاهد : وهي{[23022]} مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } [ الأنعام : 59 ] . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .
وقال الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : مَنْ حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا }{[23023]} .
وقوله : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } : قال قتادة : أشياء استأثر الله بهن ، فلم يُطلع عليهن مَلَكا مقربًا ، ولا نبيا مرسلا { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } ، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة ، في أي سنة أو في أي شهر ، أو ليل أو نهار ، { وَيُنزلُ الْغَيْثَ } ، فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ، ليلا أو نهارًا ، { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } ، فلا يعلم أحد ما في الأرحام ، أذكر أم أنثى ، أحمر أو أسود ، وما هو ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } ، أخير أم شر ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت ؟ لعلك الميت غدا ، لعلك المصاب غدا ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض ، أفي بحر أم بر ، أو سهل أو جبل ؟
وقد جاء في الحديث : " إذا أراد الله قبض عبد بأرض ، جعل له إليها حاجة " ، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ، في مسند أسامة بن زيد :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن أبي المليح ، عن أسامة{[23024]} بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما جعل الله ميتَة{[23025]} عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة " {[23026]} .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو داود الحَفَريّ ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مَطَر بن عُكَامِس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[23027]} : إذا قضى الله ميتة عبد بأرض ، جعل له إليها حاجة " .
وهكذا رواه الترمذي في " القدر " ، من حديث سفيان الثوري ، به{[23028]} . ثم قال : " حسن غريب ، ولا يعرف لمطر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث . وقد رواه أبو داود في " المراسيل " ، {[23029]} فالله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي المليح بن أسامة{[23030]} عن أبي عزة {[23031]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها - أو قال : بها - حاجة " .
وأبو عزة هذا هو : يَسَار{[23032]} بن عبد الله ، ويقال : ابن عبد الهُذَلي .
وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل [ بن إبراهيم - وهو ابن عُلَيّة{[23033]} ، وقال : صحيح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل ]{[23034]} ، حدثنا عبيد الله بن أبي حميد ، عن أبي المليح ، عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله قبض عبد بأرض ، جعل له إليها حاجة ، فلم ينته حتى يقدمها " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }{[23035]} .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن ثابت الجَحْدَري ومحمد بن يحيى القُطَعي قالا حدثنا عُمَر بن علي ، حدثنا إسماعيل ، عن قيس ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة " . ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا يرفعه إلا عُمَر بن علي المُقَدميّ . {[23036]} ( 10 ) وقال ابن أبي الدنيا : حدثني سليمان بن أبي مسيح{[23037]} ( 11 ) قال : أنشدني محمد بن الحكم لأعشى هَمْدان :
فَمَا تَزَوّدَ ممَّا كَانَ يَجْمَعُه *** سِوَى حَنُوط غَدَاةَ البَيْن مَع خرَق . . .
وَغَيْرِ نَفْحة أعْوَاد تُشَبّ لَُه *** وَقلّ ذَلكَ مِنْ زَاد لمُنْطَلق !
لا تَأسَيَنّ عَلَى شَيْء فَكُلّ فَتَى *** إلَى مَنيّته سَيَّارُ في عَنَق{[23038]} ( 12 )
وَكُلّ مَنْ ظَنّ أنّ الموتَ يُخْطِئهُ *** مُعَلَّلٌ بأعَاليل مِنَ الحَمق
بأيّمَا بَلْدَة تُقْدَر منيته *** إنْ لا يُسَيَّرْ إلَيها طَائعًا يُسَق
أورده الحافظ ابن عساكر ، رحمه الله ، في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث ، {[23039]} وهو أعشى هَمْدَان ، وكان الشعبي زوجَ أخته ، وهو مُزَوّج بأخت الشعبي أيضا ، وقد كان ممن طلب العلم وتَفَقَّه ، ثم عدل إلى صناعة الشعر فعُرف به .
وقد رواه ابن ماجه عن أحمد بن ثابت وعُمَر بن شَبَّة ، كلاهما عن عمر بن علي{[23040]} مرفوعا : «إذا كان أجل أحدكم بأرض أوثَبَتْه{[23041]} إليها حاجة ، فإذا بلغ أقصى أثره {[23042]} ، قبضه الله عز وجل ، فتقول الأرض يوم القيامة : رب ، هذا ما أودعتني » {[23043]} .
قال الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي المليح ، عن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما جعل الله منية عبد بأرض ، إلا جعل له إليها حاجة »{[23044]} .
[ آخر تفسير سورة " لقمان " والحمد لله رب العالمين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ]{[23045]}
{ إن الله عنده علم الساعة } علم وقت قيامها . لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : متى قيام الساعة ؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر ؟ وحمل امرأتي أذكر أو أنثى ؟ وما أعمل غدا وأين أموت ؟ فنزلت . وعنه الصلاة والسلام " مفاتح الغيب خمس " وتلا هذه الآية . { وينزل الغيث } في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد . { ويعلم ما في الأرحام } أذكر أم أنثى أتام أم ناقص . { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه . { وما تدري نفس بأي أرض تموت } كما لا تدري في أي وقت تموت . روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه ، فقال الرجل من هذا ؟ قال : ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك " ، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين ، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه ، وقرئ " بأية أرض " وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في { كلهن } . { إن الله عليم } يعلم الأشياء كلها . { خبير } يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها .
وقوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث } ذكرالنقاش أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الخمس وروي أنه سأل عن بعضها عن جنين وعما يكسب ونحو هذا فنزلت الآية حاصرة لمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ذكر ذلك مجاهد{[9393]} ولن تجد من المغيبات شيئاً إلا هذه أو ما يعيده النظر ، والتأويل إليها ، و { علم الساعة } مصدر مضاف إلى المفعول ، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه ، وكذلك نزول الغيث أمر قد استأثر الله تعالى بتفصيله وعلم وقته الخاص به ، وأمر الأجنة كذلك ، وأفعال البشر وجميع كسبهم كذلك وموضع موت كل بشر كذلك إلا الأصقاع والموضع الخاص بالجسد{[9394]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «بأيَّة أرض » فتح الياء وزيادة تاء تأنيث{[9395]} ، و { عليم خبير } صفتان متشابهتان لمعنى الآية ، وقال ابن مسعود : كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية{[9396]} ، وقرأ «وينزِل » خفيفة أهل الكوفة وأبو عمرو وعيسى ، وقرأ «وينزِّل » بالتثقيل نافع وأبو جعفر وعاصم وشيبة ، وذكر أبو حاتم في ترجيح التثقيل رأيا ( انتهى ) .