227- لكن الذين اهتدوا بهدى الله وعملوا الصالحات حتى تمكنت فيهم ملكات فاضلة ، وذكروا الله كثيراً حتى تمكنت خشيته من قلوبهم ، هؤلاء يجعلون الشعر كالدواء يصيب الداء ، وينتصرون لدينهم وإقامة الحق إذا جير على الحق ، وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهجاء الرسول أي مرجع من مراجع الشر والهلاك يرجعون إليه .
ولما وصف الشعراء بما وصفهم به ، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله ، وعمل صالحا ، وأكثر من ذكر الله ، وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم .
فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة ، وآثار إيمانهم ، لاشتماله على مدح أهل الإيمان ، والانتصار من أهل الشرك والكفر ، والذب عن دين الله ، وتبيين العلوم النافعة ، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ينقلبون إلى موقف وحساب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها ، ولا حقا إلا استوفاه . والحمد لله رب العالمين .
ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء :
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا ، وانتصروا من بعد ما ظلموا ) . .
فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام . هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة ، واستقامت حياتهم على منهج . وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل ، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام . وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه .
ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - من شعراء الأنصار ، ومنهم عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في جاهليتهما ، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال لحسان : " اهجهم - أو قال هاجهم - وجبريل معك " . . وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه الإمام أحمد ]
والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها . وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها ، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام .
وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا ؛ ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله . . ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا . وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح ، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلاميفي صميمه . وإن لحظة إشراق واتصال بالله ، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله ، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام .
ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها ، وللعلاقات والروابط فيها . فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام .
وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل :
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . .
السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم ، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب . كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون .
تنتهي بهذا التهديد المخيف . الذي يلخص موضوع السورة . وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب ؛ يتمثل في صور شتى ، يتمثلها الخيال ويتوقعها . وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا .
وقوله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } : قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد{[21942]} بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن أبي الحسن سالم البَرّاد - مولى تميم الداري - قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } ، جاء حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رَوَاحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : " أنتم " ، { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قال : " أنتم " ، { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال : " أنتم " .
رواه ابن أبي حاتم . وابن جرير ، من رواية ابن إسحاق{[21943]} .
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا ، عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي الحسن مولى بني نوفل ؛ أن حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } يبكيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرؤها عليهما : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } حتى بلغ : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، قال : " أنتم " {[21944]} .
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة{[21945]} حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن عروة قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } إلى قوله : { يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، قد علم الله أني منهم . فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلى قوله : { ينقلبون } .
وهكذا قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وغير واحد أن هذا استثناء مما تقدم . ولا شك أنه استثناء ، ولكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآية [ في ]{[21946]} شعراء الأنصار ؟ في ذلك نظر ، ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها ، والله أعلم ، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه مَنْ كان متلبسًا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ، ورجع وأقلع ، وعمل صالحًا ، وذكر الله كثيرًا في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كذب{[21947]} بذمه ، كما قال عبد الله بن الزبَعْرَى حين أسلم :
يَا رَسُولَ المَليك ، إنّ لسَاني *** رَاتقٌ مَا فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أجَاري الشَّيْطانَ في سَنن الغَ *** يِّ وَمَن مَالَ مَيْلَه مَثْبُورٌ
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه ، وأكثرهم له هجوًا ، فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كان يهجوه ، ويتولاه بعدما كان قد عاداه . وهكذا روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس : أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهن قال : " نعم " . قال : معاوية تجعله كاتبا بين يديك . قال : " نعم " . قال : وتُؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين . قال : " نعم " . وذكر الثلاثة{[21948]} .
ولهذا قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قيل : معناه : ذكروا الله كثيرًا في كلامهم . وقيل : في شعرهم ، وكلاهما صحيح مُكَفّر لما سبق .
وقوله : { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين . وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد . وهذا كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجهم - أو قال : هاجهم - وجبريل معك " {[21949]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله ، عز وجل ، قد أنزل في الشعّر ما أنزل ، فقال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده ، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل " {[21950]} .
وقوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ] وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " {[21951]} .
وقال قتادة بن دِعَامَة في قوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } يعني : من الشعراء وغيرهم .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة ، قال : حضرت الحسن وَمُرَّ عليه بجنازة نصراني ، فقال الحسن : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقال عبد الله بن رَبَاح ، عن صفوان بن مُحْرز : أنه كان إذا قرأ هذه الآية - بكى حتى أقول : قد اندق قَضِيب زَوره - { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقال ابن وهب : أخبرني{[21952]} ابن سُرَيج الإسكندراني ، عن بعض المشيخة : أنهم كانوا بأرض الروم ، فبينما هم ليلة على نار يشتوون{[21953]} عليها - أو : يصطلون - إذا بركاب{[21954]} قد أقبلوا ، فقاموا إليهم ، فإذا فضالة بن عبُيد فيهم ، فأنزلوه فجلس معهم - قال : وصاحب لنا قائم يصلي - قال حتى مَرّ بهذه الآية : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين يخربون البيت .
وقيل : المراد بهم أهل مكة . وقيل : الذين ظلموا من المشركين . والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم ، كما قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن زكريا بن يحيى الواسطي : حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد{[21955]} النهدي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المجير{[21956]} حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كتب أبي وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قُحَافة ، عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، وينتهي الفاجر ، ويَصدُق الكاذب : إني استخلفت عليكم عُمَر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ، ورجائي فيه ، وإن يَجُر ويبدل فلا أعلم الغيب ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقوله : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب . كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : أكثر قولهم يكذبون ، وعني بذلك شعراء المشركين . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جلّ ثناؤه : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الخ . فقال : فَرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك .
وقوله : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وهذا استثناء من قوله وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . وذُكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ثم هو لكلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها . وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة وعليّ بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال : جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الاَية أنّا شعراء ، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللّهَ كَثيرا ، وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ، وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخر السورة في حسّان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك .
قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة وطاوس ، قالا : قال وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يفْعَلُونَ ، فنسخ من ذلك واستثنى ، قال : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الاَية .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم استثنى المؤمنين منهم ، يعني الشعراء ، فقال : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، فذكر مثله .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا ، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال : هم الأنصار الذين هاجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ثم ذكر نحو حديث ابن حميد عن سلمة .
وقوله : وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء ، فقال بعضهم : هي حال منطقهم ومحاورتهم الناس ، قالوا : معنى الكلام : وذكروا الله كثيرا في كلامهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا في كلامهم .
وقال آخرون : بل ذلك في شعرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا قال : ذكروا الله في شعرهم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا ، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كلّ أحوالهم .
وقوله : وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يقول : وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم ، وإجابتهم عما هجوهم به . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال : يردّون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وانْتَصَرُوا من المشركين مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا .
وقيل : عني بذلك كله الرهط الذين ذكرت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عليّ بن مجاهد وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الغاوُونَ جاء حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الاَية أنا شعراء ، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللّهَ كَثيرا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البرّاد ، قال : لما نزلت وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الغاوُونَ ثم ذكر نحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال عبد الله بن رواحة وأصحابه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال : عبد الله بن رواحة .
وقوله : وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا يقول تعالى ذكره : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يقول : أيّ مرجع يرجعون إليه ، وأيّ معاد يعودون إليه بعد مماتهم ، فإنهم يصيرون إلى نار لا يُطفأ سعيرها ، ولا يَسْكُن لهبها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يعني : أهل مكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال : وسيعلم الذين ظلموا من المشركين أيّ منقلب ينقلبون .
هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكل من اتصف بهذه الصفة ، ويروى عن عطاء بن يسار وغيره أن هؤلاء شق عليهم ما ذكر قبل في الشعراء وذكروا ذلك للنبي عليه السلام فنزلت آية الاستثناء بالمدينة{[8974]} ، وقوله { وذكروا الله كثيراً } يحتمل أن يريد في أشعارهم وهو تأويل ابن زيد ، ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة قاله ابن عباس ، وهذا كما قال لبيد حين طلب منه شعره إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيراً منه وكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح من غير حق ولا يرتدع عن قول دنيء فهم داخلون في هذه الآية وكل تقي منهم يكثر من الزهد ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في الاستثناء ، وقوله { وانتصروا } إشارة إلى ما قاله من الشعر علي وغيره في قريش قال قتادة وفي بعض القراءة ، «وانتصروا بمثل ما ظلموا » ، وباقي الآية وعيد للظلمة كفار مكة وتهديد لهم ، وعمل { ينقلبون } في { أي } لتأخيره{[8975]} . والحول والقوة لله عز وجل ، والله تبارك وتعالى أعلم .
{ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا }
وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين ، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم ، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق ، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه ، واستثناء { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الخ . . . من عموم الشعراء ، أي من حكم ذمّهم . وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام .
ومعنى : { وذكروا الله كثيراً } إي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر . { وانتصروا من بعد ما ظلموا } وهم مَن أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصارِ للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة ، فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين . وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رَواحة ، وحسانَ بن ثابت ومن أسلم بعدُ من العرب مثل لَبيد ، وكعب بن زهير ، وسُحيم عبد بني الحسحاس ، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السُّورة مدنيّاً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة .
وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة ، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة ، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه ، والتي تأوي إلى جانب رفضه . وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } ، وإلى الحالة المأذونة قوله : { وعملوا الصالحات } . وكيف وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابُه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة ، على أنه أذِن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له : « كلامك أشد عليهم من وقع النبل . . » وقال له : « قل ومعك روح القدس » . وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } في سورة يس ( 69 ) . وأجاز عليه كما أجاز كعبَ بن زهير فخلع عليه بردته ، فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمناً .
وقال أبو هريرة : سمعت رسول الله يقول على المنبر : أصدَقُ كلمةٍ ، أو أشْعَر كلمة قالتها العرب كلمةُ لبيد :
ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطل
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال : كاد أميةُ أن يُسلم ، وأمر حسّاناً بهجاء المشركين وقال له : قُل ومعك رُوح القدس . وقال لكعبِ بن مالك : لكلامُك أشد عليهم من وقْع النبْل .
روى أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » بسنده إلى خُريم بن أوس بن حارثة أنه قال : هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرَفَه من تبوك فسمعت العباس قال : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك . فقال : قُل لا يفضُض الله فاك . فقال العباس :
من قبلِها طبتَ في الظلال وفي *** مُستَوْدَع حيثُ يخصف الوَرق
الأبيات السبعة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا يفضض الله فاك "
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدُ الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول :
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله *** اليومَ نضربكم على تنزيله
ضَرباً يُزيل الهامَ عن مقيله *** ويُذهل الخليلَ عن خليله
فقال له عُمر : يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " خَلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نَضْح النبْل " .
وعن الزهري أن كعب بن مالك قال : يا رسول الله ما تقول في الشعر ؟ قال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل " .
ولعلي بن أبي طالب شعر كثير ، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه .
وقد بين القرطبي في « تفسيره » في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر . وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب « دلائل الإعجاز » .
ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر ، ولم يزل العلماء يعنَون بشعر العَرب ومَن بعدهم ، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن .
ومعنى : { من بعد ما ظلموا } أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء .
{ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَىَّ مُنقَلَبٍ } .
ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم . وجُعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك ، وللاعتداء على حقوق الناس . وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده ، والواو اعتراضية للاستئناف .
وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحثّ عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب ، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم ، ومن الإبهام في قوله : { أي منقلب ينقلبون } إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس المُوعَدِين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلَب سوء .
والمنقلب : مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآلُ ، لأن الانقلاب هو الرجوع . وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده . واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه . قال في « الكشاف » : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها .