{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }
أي : الزموا صبغة الله ، وهو دينه ، وقوموا به قياما تاما ، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة ، وجميع عقائده في جميع الأوقات ، حتى يكون لكم صبغة ، وصفة من صفاتكم ، فإذا كان صفة من صفاتكم ، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره ، طوعا واختيارا ومحبة ، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة ، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية ، لحث الدين على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ومعالي الأمور ، فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية- : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي : لا أحسن صبغةمن صبغته{[103]} .
وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ ، فقس الشيء بضده ، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا ، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح ، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن ، وفعل جميل ، وخلق كامل ، ونعت جليل ، ويتخلى من كل وصف قبيح ، ورذيلة وعيب ، فوصفه : الصدق في قوله وفعله ، والصبر والحلم ، والعفة ، والشجاعة ، والإحسان القولي والفعلي ، ومحبة الله وخشيته ، وخوفه ، ورجاؤه ، فحاله الإخلاص للمعبود ، والإحسان لعبيده ، فقسه بعبد كفر بربه ، وشرد عنه ، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة ، من الكفر ، والشرك والكذب ، والخيانة ، والمكر ، والخداع ، وعدم العفة ، والإساءة إلى الخلق ، في أقواله ، وأفعاله ، فلا إخلاص للمعبود ، ولا إحسان إلى عبيده .
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما ، ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله ، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه .
وفي قوله : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة ، وهي القيام بهذين الأصلين : الإخلاص والمتابعة ، لأن " العبادة " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة ، ولا تكون كذلك ، حتى يشرعها الله على لسان رسوله ، والإخلاص : أن يقصد العبد وجه الله وحده ، في تلك الأعمال ، فتقديم المعمول ، يؤذن بالحصر .
وقال : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار ، ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما .
إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته ، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه ، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه ، فيعرفون بها في الأرض :
( صبغة الله . ومن أحسن من الله صبغة ؟ ونحن له عابدون ) . .
صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر . لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق ، لا تعصب فيها ولا حقد ، ولا أجناس فيها ولا ألوان .
ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة . . إن صدر هذه الآية من كلام الله التقريري : ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) . . أما باقيها فهو من كلام المؤمنين . يلحقه السياق - بلا فاصل - بكلام الباريء سبحانه في السياق . وكله قرآن منزل . ولكن الشطر الأول حكاية عن قول الله ، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين . وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد ، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم ، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم . وأمثال هذا في القرآن كثير . وهو ذو مغزى كبير .
وقوله : { صِبْغَةَ اللَّهِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : دين الله وكذا روي عن مجاهد ، وأبي العالية ، وعكرمة ، وإبراهيم ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد الله بن كثير ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك .
وانتصاب { صِبْغَةَ اللَّهِ } إما على الإغراء كقوله { فِطْرَتَ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] أي : الزموا ذلك عليكموه . وقال بعضهم : بدل من قوله : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } وقال سيبويه : هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله : { آمَنَّا بِاللَّهِ } كقوله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ } [ النساء : 36 ] .
وقد ورد{[2853]} في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه ، من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس أن نبي الله{[2854]} قال : " إن بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، هل يَصْبُغ ربك ؟ فقال : اتقوا الله . فناداه ربه : يا موسى ، سألوك هل يَصْبُغ ربك ؟ فقل : نعم ، أنا أصبُغ الألوان : الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلها من صَبْغي " . وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم :
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }{[2855]} .
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا ، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف ، وهو أشبه ، إن صح إسناده ، والله أعلم{[2856]} .
{ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }
يعني تعالى ذكره بالصبغة : صبغة الإسلام ، وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تُنَصّر أطفالهم جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام ، وأنه صبغة لهم في النصرانية ، فقال الله تعالى ذكره إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به : كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا : قل لهم يا محمد : أيها اليهود والنصارى ، بل اتبعوا ملة إبراهيم صبغة الله التي هي أحسن الصبغ ، فإنها هي الحنيفية المسلمة ، ودعوا الشرك بالله والضلال عن محجة هداه . ونصب «الصبغة » من قرأها نصبا على الردّ على «الملة » ، وكذلك رفع «الصبغة » من رفع الملة على ردّها عليها . وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه ، وذلك على الابتداء ، بمعنى : هي صبغة الله . وقد يجوز نصبها على غيرِ وجه الردّ على «الملة » ، ولكن على قوله : قُولُوا آمَنّا بِالله إلى قوله : وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ صبغةَ الله ، بمعنى : آمنّا هذا الإيمان ، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغة الله . وبمثل الذي قلنا في تأويل الصبغة قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { صَبْغَةَ الله وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } إن اليهود تصبغ أبناءها يهود ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وإن صبغة الله الإسلام ، فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر ، وهو دين الله بعث به نوحا والأنبياء بعده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال عطاء : صِبْغَةَ اللّهِ صبغت اليهود أبناءهم خالفوا الفطرة .
واختلفوا أهل التأويل في تأويل قوله صِبْغَةَ الله فقال بعضهم : دين الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { صِبْغَةَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { صِبْغَةَ اللّهِ } قال : دين الله . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } : ومن أحسن من الله دينا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فصيل بن مرزوق ، عن عطية قوله : { صبْغَةَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } يقول : دين الله ، ومن أحسن من الله دينا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : { صِبْغَةَ اللّهِ }قال : دين الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { صِبْغَةَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت ابن زيد عن قول الله : { صبْغَةَ اللّهِ }فذكر مثله .
وقال آخرون : { صِبْغَةَ اللّهِ } فطرة الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { صِبْغَةَ اللّهِ } قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن مجاهد : { وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً }قال : الصبغة : الفطرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : { صِبْغَةَ اللّهِ } الإسلام ، فطرة الله التي فطر الناس عليها . قال ابن جريج : قال لي عبد الله بن كثير : { صِبْغَةَ اللّهِ } قال : دين الله وَمَنْ أحسن من الله دينا . قال : هي فطرة الله .
ومن قال هذا القول ، فوجه الصبغة إلى الفطرة ، فمعناه : بل نتبع فطرة الله وملته التي خلق عليها خلقه ، وذلك الدين القيم . من قول الله تعالى ذكره : { فَاطِرِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } بمعنى خالق السماوات والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَحنُ لَهُ عابِدُونَ } .
وقوله تعالى ذكره : { وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ } أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود والنصارى الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه : كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قل بل نتبع ملة إبْرَاهِيمَ حَنِيفا } ،
{ صِبْغَةَ اللّهِ } ، { وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ } . يعني ملة الخاضعين لله المستكينين له في اتباعنا ملة إبراهيم ودينونتنا له بذلك ، غير مستكبرين في اتباع أمره والإقرار برسالته رسلَه ، كما استكبرت اليهود والنصارى ، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارا وبغيا وحسدا .
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }( 138 )
و { صبغة الله } شريعته وسنته وفطرته ، قال كثير من المفسرين : وذلك أن النصارى لهم ماء يصبغون فيه أولادهم ، فهذا ينظر إلى ذلك( {[1322]} ) : وقيل : سمي الدين { صبغة } استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره( {[1323]} ) ، ونصب الصبغة على الإغراء ، وقيل بدل من ملة ، وقيل نصب على المصدر المؤكد لأن ما قبله من قوله { فقد اهتدوا } هو في معنى يلبسون أو يتجللون صبغة الله ، وقيل : التقدير ونحن له مسلمون صبغة الله ، فهي متصلة بالآية المتقدمة ، وقال الطبري من قرأ برفع «ملةُ » قرأ برفع «صبغةُ » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد ذكرتها( {[1324]} ) عن الأعرج وابن أبي عبلة . و { نحن له عابدون } ابتداء وخبر .