79- ما يصيبك - أيها النبي - من رخاء ونعمة وعافية وسلامة فمن فضل اللَّه عليك ، يتفضل به إحسانا منه إليك ، وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه فمن نفسك بسبب تقصير أو ذنب ارتكبته . والخطاب للنبي لتصوير النفس البشرية وإن لم يقع منه ما يستوجب السيئة ، وأرسلناك رسولاً من عندنا للناس جميعاً ، واللَّه شهيد على تبليغك وعلى إجابتهم ، وكفي به عليماً .
ثم قال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي : في الدين والدنيا { فَمِنَ اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها . { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنوبك وكسبك ، وما يعفو الله عنه أكثر .
فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله ، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله ، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره .
ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة ، فهي أكبر شهادة على الإطلاق ، كما قال تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم ، تام القدرة عظيم الحكمة ، وقد أيد الله رسوله بما أيده ، ونصره نصرا عظيما ، تيقن بذلك أنه رسول الله ، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين ، ثم لقطع منه الوتين .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . )
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا ، وشرع طريقا ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس ، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :
( وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة ( وكفى بالله شهيدًا ) . .
ثم قال تعالى - مخاطبًا - للرسول [ صلى الله عليه وسلم ]{[7921]} والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أي : من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : فمن قبلك ، ومن عملك أنت كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] .
قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جُريج ، وابن زيد : { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك .
وقال قتادة : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يصيب رجلا خَدْش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عِرْق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر " .
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ ، ولا نَصَبٌ ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه " . {[7922]}
وقال أبو صالح : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك ، وأنا الذي قدرتها عليك . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سهل - يعني ابن بَكَّار - حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف ، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر ، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من نفسك ، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون .
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ، ولبسطه موضع آخر .
وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } أي : تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه .
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.